الدور الإعلامي للسيدة زينب (ع) في نشر القضية الحسينية

التخطيط المسبق والسليم لأي حركة إصلاحية في المجتمع البشري، والنظر في تبعاتها وما ستؤول إليه، هي من أسباب نجاح هذه الحركات. وعلى مدى التاريخ فإننا نرى أن من يقوم بإحداث التغيير في مجتمع ما، دائما ما ينظرون إلى أبعاد حركاتهم وتبعاتها، ويخططون لاستمرارية حركاتهم هذه على المدى البعيد، وذلك لضمان نجاح المشروع الإصلاحي في المجتمع، ويهتم هؤلاء بالإعلام من أجل إبراز هوية حركاتهم الإصلاحية وبيان أحقيتها على غيرها من الحركات، وأيضا من أجل تفنيد الشبهات التي قد تطرح ضد هذه الحركات.

هذه المقدمة ضرورية جدا للدخول في صلب الموضوع، والحديث عن الدور الكبير التي قامت به السيدة زينب بُعيد استشهاد الإمام الحسين ، والبصمة التي وضعتها العقيلة زينب من إجل إنجاح الثورة الحسينية وإظهارها بمظهرها اللائق. حيث نلاحظ أن الإمام الحسين قد أخذ جميع نساءه وبناته باستثناء فاطمة العليلة معللا ذلك بقوله: «شاء الله أن يراهن سبايا»، فلولا دور السيدة زينب بعد استشهاد الإمام الحسين لضاع من أحداث ما جرى في كربلاء الكثير، وسيأتي الحديث عن ذلك مفصلا.

يمكن تقسيم دور السيدة زينب في إنجاح الثورة الحسينية إلى مرحلتين: الأولى هي بُعيد استشهاد الإمام الحسين إلى خروج العائلة الهاشمية من مجلس يزيد بن معاوية لعنه الله مرورا برحلة الأسر والسبي والأحداث التي رافقت هذه الرحلة، والمرحلة الثانية هي منذ دخولهم إلى خربة الشام واستقرارهم فيها لمدة 7 أيام ثم خروجهم إلى كربلاء ومن ثم وصولهم واستقرارهم في المدينة المنورة وإلى حين وفاة السيدة زينب . ويمكن أن نطلق على المرحلة الأولى من دور السيدة زينب مرحلة الإعلام المضاد، والمرحلة الثانية يمكن أن نطلق عليها مرحلة الإعلام الهادف.

بدأت المرحلة الأولى مباشرة بُعيد استشهاد الإمام الحسين مباشرة، حيث قامت السيدة زينب بدورها المنوط بها على أكمل وجه، وفي هذه المرحلة لنا أربعة وقفات، الوقفة الأولى كانت في تعنيف السيدة زينب لقائد جيش الشام عمر بن سعد لعنه الله حين قالت له بجرأة فاطمية وشجاعة علوية: «يابن سعد، أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟ »، فدمعت عيناه حتى سالت دموعه على لحيته وصرف وجهه عنها. وذلك ردا على ما بدر من عمر بن سعد حين أمر بدفن قتلى معسكره وترك جثث معسكر سيد الشهداء على الرمضاء.

الوقفة الثانية تمثلت في خطبتها العظيمة في محفل من أهل الكوفة إبان دخول ركب السبايا إياها حين قالت لهم: «ويلكم أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم؟ وأي عهد نكثتم؟ وأي كريمة له أبرزتم؟ وأي حرمة له هتكتم؟ وأي دم له سفكتم؟ لقد جئتم شيئاً إدّا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الجبال وتخر الجبال هدّا». لقد تصدت السيدة زينب لحركة التزوير والتظليل التي أطلقها الإعلام الأموي أنذاك، والذي وصف الإمام الحسين ومن قاتل معه بالخوارج، والمارقين من الدين، والباغين على «أمير المؤمنين».

لقد وضحت السيدة زينب في خطبتها لأهل الكوفة من هو الحسين بن علي ، وما الذي فعله جيش الشام بالإمام الحسين في خطبة بليغة حتى قال القائل: «فلم أرَ والله خَفِرة أنطق منها، كأنّما تنطق وتفرغ عن لسان أبيها أمير المؤمنين ». فأثارت كلماتها هذه النفوس الخيِّرة في أرض الكوفة، حتى ثاروا على طاغيتهم بثورات متتالية، ولولا كلام السيدة زينب لما تجرأ أحد على الخروج ضد بني أمية.

وما تحديها لعبيدالله بن زياد والي الكوفة إلا مثالا للإعلام المضاد، وهنا وقفتنا الثالث، فإن عبيدالله بن زياد أراد أن ينسب مقتل الإمام الحسين إلى الله سبحانه وتعالى، وما أعظمه من إفتراء، فكان رد مولاتنا العقيلة زينب ردا قاطعا حير العقول والألباب المجتمعة في ذلك المجلس. قال عبيدالله بن زياد للسيدة زينب : «الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم». فقالت زينب : «الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد وطهرنا من الرجس تطهيرا، وإنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر، وهو غيرنا والحمد لله»، فقال ابن زياد: «كيف رأيت فعل الله بأهل بيتك؟! » فقالت : «ما رأيت إلا جميلاً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجون إليه وتختصمون عنده، فانظر لمن الفلج يومئذ، ثكلتك أمك يابن مرجانة! ».

لقد أستطاعت السيدة زينب من خلال هذه الحوار البسيط إبراز نقاط الضعف في منطق الإعلام الأموي، وبيان الإنحطاط الفكري والأخلاقي في إعلامهم، واستطاعت كذلك إسكات إعلامهم الناطق وهو عبيدالله بن زياد والذي غضب بعد سماع هذا الكلام من فخر المخدرات سليلة بيت العصمة والطهارة، وسمع الحاضرون في ذلك المجلس تفنيدها لافتراءات عبيدالله بن زياد بمنطق سليم وأسلوب سلس بعيد عن العصبية.

الوقفة الرابعة في دور السيدة زينب في المرحلة الأولى، تمثل في خطبتها في مجلس يزيد بن معاوية طاغية الشام، حيث أظهرت قوة المنطق وفصاحة البيان أذهلت الحضور بأجمعهم وأذهلت يزيد نفسه، فهي في حين تبين أفضلية أهل البيت على جميع الناس، وأخرى تظهر جرم بني أمية وفضاعة ما قاموا به، وفي الوقت نفسه ترد على القائلين بأن السبايا هم سبايا الروم والديلم وأن الإمام الحسين بغى وخرج على خليفة زمانه.

فتقول السيدة زينب مخاطبة يزيد بن معاوية: «وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء، وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف والشنآن، والإحن والأضغان». لتبين للناس أن الحرب الدائرة والمعركة التي حدثت هي بين طريقين، طريق الحق وطريق الباطل، بين أسرة تنتمي إلى الإسلام الحقيقي، وأسرة لم تعرف الإسلام والإيمان يوما واحدا أبدا. ثم تقول له برد بليغ قاطع مبينة جرمه وجريرته: «ألا فالعجب كل العجب، لقتل حزب الله النجباء، بحزب الشيطان الطلقاء، فهذه الأيدي تنطف من دمائنا، والأفواه تتحلب من لحومنا وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل، وتعفرها أمهات الفراعل ولئن اتخذتنا مغنما، لنجدنا وشيكاً مغرماً، حين لا تجد إلا ما قدمت يداك وما ربك بظلام للعبيد، وإلى الله المشتكى وعليه المعول». ثم أنهت خطابها ليزيد والحاضرين بتهديد ووعيد قائلة ليزيد: «فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك الا فند وايامك الا عدد، وجمعك الا بدد، يوم ينادي المنادي الا لعنة الله على الظالمين».

كانت المرحلة الأولى حاسمة جدا ومفصلية بشكل كبير في توضيح الحقائق وإظهار النوايا الخبيثة التي انطوى عليها الإعلام الأموي، وكانت أيضا مرحلة مهمة جدا في تثبيت دعائم الثورة الحسينية، والرد على افتراءات الأمويين وإعلامهم الزائف. وكما ذكرنا لعبت السيدة زينب الدور المحوري في هذه المرحلة المهمة من تاريخ الصراع بين البيت الهاشمي والبيت الأموي.

بعد خروج العقيلة زينب وبقية الركب من آل محمد من مجلس يزيد بن معاوية، فإنهم أقاموا بخربة الشام 7 أيام بلياليها، وهنا بدأت المرحلة الثانية من دور السيدة زينب وهي مرحلة الإعلام الهادف، ولنا فيها أيضا 4 وقفات مهمة، وانتهت هذه المرحلة بشهادتها .

إن أول ما قامت به السيدة زينب بعد دخولها هي وبقية بنات الرسالة إلى خربة الشام، إقامة مجالس العزاء على سيد الشهداء كما يذكر المؤرخون، حتى أن هند زوجة يزيد - والتي ترتب في بيت أمير المؤمنين - قد حضرت بنفسها في مجالس العزاء هذه، وكان لهذه المجالس دور كبير في تغيير الفكر السائد بين الناس في الشام من بغضهم لأهل بيت العصمة والطهارة، وعلم المجتمع الشامي أنذاك أي جريمة ارتكبها زعيمهم، وأي حيلة انطلت عليهم. وبعد 7 أيام خاف يزيد من أن ينقلب الناس ضده، فأشار عليه مروان بن الحكم كما يروي التاريخ بأن يرسلهم إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم.

وبعد خروج الركب الحسيني من الشام، توجه إلى كربلاء بطلب ورغبة من السيدة زينب ، لتجديد العزاء على أخوانها وأبناءها وبني عمومتها، حيث أقامت العزاء والحداد على أبي عبدالله الحسين ، وبينت لمن حضر ومنهم جابر بن عبدالله الأنصاري الصحابي الجليل وغيره المصائب التي جرت على أهل هذا البيت الطاهر، فكانت هي الراوية لوقائع حادثة الطف بتفاصيلها. ليعلم الناس الحقيقة كاملة من غير تشويه أموي، وتغيير لحقائق التاريخ.

الوقفة الثالثة كانت في أول وصولها إلى المدينة المنورة، حيث ذهبت مباشرة إلى مسجد جدها رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، وهنا يذكر المؤرخون أن السيدة زينب نعت الإمام الحسين عند قبر جدها رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فاجتمع الهاشميون والهاشميات في مجلس عزائي مهيب ينعون الإمام الحسين وأهل بيته ويبكونهم عند قبر رسول الله صلى الله عليه واله وسلم.

الوقفة الرابعة هي أن السيدة زينب استمرت في إقامة المآتم ومجالس البكاء والنياحة على الإمام الحسين في المدينة المنورة، وكانت تؤلب الناس على القيام ضد بني أمية والثورة عليهم والأخذ بثأر الإمام الحسين ، ولكن للأسف لم يذكر لنا التاريخ الشيء الكثير عن هذه المرحلة من حياة السيدة زينب إلا إقامة مجالس العزاء والنياحة على الإمام الحسين في كل محفل وزمان حتى خاف والي المدينة من أن ينقلب الناس على حكم بني أمية، فبعث برسالة إلى يزيد بن معاوية يخبره بالأمر، فأمره بأن يُخرج السيدة زينب من المدينة المنورة إلى حيث شاءت وهذا ما حصل.

كانت المرحلة الثانية من دور السيدة زينب مهمة جدا، وربما أكثر أهمية من المرحلة الأولى، فكان فيها توضيح أحداث واقعة الطف بشكل تفصيلي، بالإضافة إلى أنها كانت اللبنة الأولى لإقامة مجالس العزاء على الإمام الحسين ، ولولا مجالس العزاء التي أقامتها السيدة زينب ، لما كنا نقيم مآتمنا اليوم، وربما لم نعرف عن واقعة الطف إلا اسمها فقط.

لقد عملت السيدة زينب في مرحلتين مهمتين من مراحل الثورة الحسينية المباركة، المرحلة الأولى والتي تمثلت في رد الشبهات عن الناس وتوضيح الحقائق وكشفها لهم، والمرحلة الثانية كانت في إظهار وتبيان ما جرى يوم عاشوراء على الإمام الحسين وإقامة مجالس البكاء عليه وإظهار مظلومية أهل البيت ، فكانت في المرحلة الأولى بصلابة علي ابن أبي طالب وفصاحته وبلاغته، وفي المرحلة الثانية تًظهر الجزع على أبي عبدالله الحسين حتى يستشعر الناس عظمة المصيبة وفاجعتها وكل ذلك بمرأى ومسمع من الإمام السجاد الذي اعتزل المعترك السياسي ظاهريا.

ومن هنا يتبين لنا دور الإعلام المهم في بيان الحركات الإصلاحية في المجتمع الإنساني، ولولا الدور الإعلامي البارز الذي قامت به السيدة زينب بعد واقعة الطف، لما وصل إلينا إلا النزر اليسير من أحداث هذه الفاجعة العظمى، ولم تكشف الحقائق على مصراعيها لكل ذي لب وعقل، وصدق من قال: «عاشوراء حسينية الوجود، زينبية البقاء».