لماذا الحسين (ع)

  • لماذا البكاء وإقامة العزاء على الحسين بن علي ؟

في كل عام ومع اقتراب شهر محرم الحرام تتجدد الاسئلة، وتتعدد الأجوبة، لماذا هذا الاضطراب الكوني الحاصل باسم شخص واحد... باسم الحسين ؟

وذلك لما يراه العالم من تقلب حال الملايين من المسلمين منذ إطلالة هلال شهر من أشهر السنة وهو هلال شهر محرم الحرام، فملايين من المسلمين بين لابس للسواد، وبين باكٍ، وبين نادبٍ، وبين من يهيئ الأماكن لإقامة مجالس العزاء والفاتحة.

يلاحظ العالم بأسره تغير واضح وحالة معينة يعيشها الملايين لم تكن ظاهرة عليهم قبل أسابيع، بل لم تكن قبل أيام من استهلال هلال شهر محرم الحرام، فما الذي غيرهم، وقلب أحوالهم رأساً على عقب؟

لا بد من أن هناك قضية أو مسألة هامة توحدهم جميعاً على اختلاف عروقهم ومشاربهم وبلدانهم، فعلى بعد مسافاتهم الجغرافية بين بعضهم البعض، واختلاف ثقافاتهم وانتماءاتهم، إلا أنهم يتوحدون في هذه الأيام بمظاهر الحزن والبكاء والسواد كغيمة واحدة تلبدت في سماء الكون بأسره.

لماذا؟. ومن أجل من؟. ولأي شي؟.

هل ياترى هي المناسبة الحزينة الوحيدة التي يعيشونها فجعلوها بهذا القدر من الاهتمام؟. لماذا هذه الحرقة في البكاء؟. ومن أجل من كل هذه المظاهر؟. هل الأمر - كما العادة في جميع الشعوب - أن لهم شخصية تاريخية يخلدون ذكراها في هذا اليوم، حيث نرى لكل شعب أو قومية أو بلد رمزاً من الرموز التي يمجدونها وفاءً لما قدمته تلك الشخصية من تضحية في سبيل قضية ما؟. فهل هكذا هو الأمر؟

بعد التحقق والبحث نجد بأن هؤلاء الملايين من المسلمين الشيعة لديهم أحزان مستمرة طيلة أيام السنة يحيونها بالحزن والبكاء والعزاء أيضا وإقامة المآتم. ولكن هم يعترفون بأن لشهر محرم وقع خاص على قلوبهم جميعاً، والمصيبة المرتبطة بهذا الشهر أيضا لها خاصية معينة فهي كما يصفها أحد الشعراء بقوله:

« كل المصايب لو فكرت هينة إلا مصيبتنا في سيد الشهداء ».

إذا لماذا مصيبة الحسين من بين جميع مصائب الأئمة ؟

- هناك عدة دَلالات يمكن إيضاحها لعظم مصاب الإمام الحسين عن سائر الأئمة على الرغم من أن مصائبهم عظيمة وجليلة ولكن كما يقول رسول الله : «عن جعفر بن محمد عليهما السلام، قال نظر النبي إلى الحسين بن علي عليهما السلام وهو مقبل، فأجلسه في حجره وقال: إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدا، ثم قال بأبي قتيل كل عبرة، قيل: وما قتيل كل عبرة يا بن رسول الله؟ قال: لا يذكره مؤمن إلا بكى». «1». إذا مصيبة الخليفة الشرعي الثالث لرسول الله ليست قضية عادية ولا مصيبة متكررة لهم، من حيث الجزئيات فيها، حتى أن المؤمن إذا ذكر عنده فقط اسم الحسين تراه تغرورق عيناه بالدموع ويغلب على حاله الحزن والألم. وهنا سنستعرض بعض الجوانب التي تبين فداحة مصيبة أبي الأحرار أرواحنا لتراب زائريه الفداء.

ومنها:

- أولاً: عظم مصيبة الإمام الحسين بذاتها:

ليس هناك حادث في التاريخ يضارع في كوارثه وآلامه ما جرى على الإمام الحسين في يوم عاشوراء، لم تبق محنة من محن الدنيا ولا كارثة من كوارث الدهر إلا جرت على ريحانة رسول الله ، إن ماجرى على الإمام الحسين لم يجر على أي أحد من الأئمة ، والفجائع التي حدثت في يوم عاشوراء أربكت التاريخ باعتبارها أول وأكبر مجزرة تقام بحق شخصية ربانية سماوية لها قدسيتها واحترامها، وهو ابن بنت نبي لا يوجد على وجه البسيطة غيره، ولم يقتصر الأمر على قتله فقط وإنما تعداه إلى ثلة من أهل بيته، وبالطريقة البشعة التي قُتلوا بها، لذلك فهو اليوم الأكثر ألماً والأشدّ حزناً من بين الفجائع والرزايا التي حلَّت بهم ، وقد ضج الكون بأسره ولا زال العالم إلى زماننا يتحدث عن واقعة كربلاء التي ارتكبت فيها أعظم جريمة على وجه الكرة الأرضية، من قتل وذبح وتجويع للاطفال، وتمثيل بالاجساد وهتك للحرمات، ونهب وسرقة للمتلكات، وإرهاب نفسي، وتعذيب جسدي، لم يتركوا شيئاً لم يفعلوه في ذلك اليوم.

وهذا ما عبر عنه الامام زين العابدين بقوله: «ما من يوم أشد على رسول الله من يوم أحد قتل فيه عمه حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله، وبعده يوم مؤتة قتل فيه ابن عمه جعفر بن أبي طالب، ثم قال: ولا يوم كيوم الحسين إذ دلف إليه ثلاثون ألف رجل يزعمون أنهم من هذه الأمة كل يتقرب إلى الله عز وجل بدمه، وهو بالله يذكرهم فلا يتعظون حتى قتلوه بغيا وظلما وعدوانا». «2»

كما أن الامام أبو عبد الله كان آخر شمعة وآخر نور من أنوار أصحاب الكساء وبرحيله ارتحل ذكرهم وانطفات شعلتهم وغاب نورهم، وفقد الناس صورتهم، التي كانوا يأنسون بها في شخص الحسين ، عن عبد الله الفضل الهاشمي قال: «قلت لأبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق ، يا بن رسول الله، كيف صار يوم عاشوراء، يوم مصيبة وغم وجزع وبكاء دون اليوم الذي قبض فيه رسول الله واليوم الذي ماتت فيه فاطمة واليوم الذي قتل فيه أمير المؤمنين واليوم الذي قتل فيه الحسن بالسم؟ فقال: «إن يوم الحسين أعظم مصيبة من جميع سائر الأيام؛ وذلك أن أصحاب الكساء الذي كانوا أكرم الخلق على الله تعالى كانوا خمسة فلما مضى عنهم النبي بقي أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين فكان فيهم للناس عزاء وسلوة، فلما مضت فاطمة كان في أمير المؤمنين والحسن والحسين للناس عزاء وسلوة، فلما مضى الحسن كان للناس في الحسين عزاء وسلوة، فلما قتل الحسين لم يكن بقي من أهل الكساء أحد للناس فيه بعده عزاء وسلوة، فكان ذهابه كذهابهم جميعهم كما كان بقاؤه كبقاء جميعهم؛ فلذلك صار يومه أعظم مصيبة». «3»

- ثانياً: اهتمام السماء بمصيبة الحسين وإخبار الله سبحانه وتعالى عنها:

إن مما يدل على عظم مصيبة ريحانة رسول الله هو نعي الله سبحانه وتعالى بنفسه الحسين بن علي فيما قاله لنبيه موسى حينما ناجاه، فموسى في مناجاته مع ربه سأله من ضمن ماسأله عن سبب تفضيله أمة رسول آخر الرسل والانبياء محمد ، فكان مما أجابه الله سبحانه وتعالى به ذكرٌ لمصيبة الحسين . حيث قال موسى : «يا ربّ، لم فضّلت أمّة محمّد على سائر الأمم؟ فقال الله تعالى: فضّلتهم لعشر خصال، قال موسى: وما تلك الخصال التي يعملونها حتّى آمر بني إسرائيل يعملونها؟ قال الله تعالى: الصلاة، والزكاة، والصوم، والحجّ، والجهاد، والجمعة، والجماعة، والقرآن، والعلم، والعاشوراء، قال موسى: يا ربّ، وما العاشوراء؟ قال: البكاء والتباكي على سبط محمّد ، والمرثيّة والعزاء على مصيبة ولد المصطفى، يا موسى ما من عبد من عبيدي في ذلك الزمان، بكى أو تباكى وتعزّى على ولد المصطفى: إلّا وكانت له الجنّة ثابتاً فيها، وما من عبد أنفق من ماله في الدرهم بسبعين درهماً، وكان معافى في الجنّة، وغفرت له ذنوبه، وعزّتي وجلالي، ما من رجل أو امرأة سال دمع عينيه في يوم عاشوراء وغيره، قطرة واحدة إلّا وكتب له أجر مائة شهيد». «4»

مما يذكره التاريخ لنا أيضاً عند ولادة السبط الثاني الامام الحسين ، أن الله سبحانه وتعالى أرسل زعيم الملائكة ورئيسها مع كوكبة عظيمة من كرام الملائكة ليهنئوا رسول الله بولادة حفيده الحسين ، وإلى جانب التهئنة كانت هناك رسالة خاصة يحملها جبرائيل ألا وهي أنهم جاؤوا معزين أيضاً، وهذا ماأخبرنا به إمامنا جعفر بن محمد الصادق قال: «إنّ جبرائيل نزل على محمّد ، فقال له: يا محمّد، إنّ الله يبشّرك بمولودٍ يولد من فاطمة، تقتله أُمّتك من بعدك، فقال: «يا جبرائيل، وعلى ربّي السلام، لا حاجة لي في مولود يولد من فاطمة تقتله أُمّتي من بعدي»، فعرج ثمّ هبط فقال له مثل ذلك، فقال: «يا جبرائيل، وعلى ربّي السلام، لا حاجة لي في مولود تقتله أُمّتي من بعدي»، فعرج جبرائيل إلى السماء ثمّ هبط فقال: يا محمّد إن ربّك يقرئك السلام ويبشّرك بأنّه جاعل في ذرّيته الإمامة والولاية والوصية، فقال: «قد رضيت». ثمّ أرسل إلى فاطمة: «إنّ الله يبشّرني بمولود يولد لك تقتله أُمّتي من بعدي»، فأرسلت إليه: «لا حاجة لي في مولود تقتله أُمّتك من بعدك»، فأرسل إليها: «إنّ الله قد جعل في ذرّيته الإمامة والولاية والوصية»، فأرسلت إليه: أن قد رضيت». «5»

- ثالثاً: حزن الأنبياء وبكاءهم على الحسين :

رسول الله محمد : أشرف الأنبياء جميعاً وخاتم المرسلين ابتلّت لحيته الشريفة الطاهرة في مواطن عديدة بدموع عينيه الزكيتين حزناً على ولده سيد الشهداء الحسين بن علي عليهما السلام، ومراراً وتكراراً كان يردد بأن ولدي هذا مظلوم وستقتله الفئة الباغية، ويؤكد على مظلومية الحسين باشارات واضحة على خصوصية مصيبته سلام الله عليه. فها هو عندما بشر بولادة حفيده خفّ مسرعاً إلى بيت بضعته فاطمة وهو ثقيل الخطوات، وقد ساد عليه الحزن، فنادى: «يَا أسماء، هَلُمِّي ابني. فناولته أسماء، فاحتضنه النبي وجعل يُوسعه تقبيلاً وقد انفجر بالبكاء، فذُهِلت أسماء وانبرت تقول: فِداك أبي وأُمّي، ممّ بكاؤك؟! فأجابها النبي وقد غامت عيناه بالدموع: على ابني هذا، فقالت: إنّه وُلد الساعة!! فأجابها الرسول بصوتٍ متقطّع النبرات حزناً وأسىً قائلاً: تَقتُلُه الفِئةُ البَاغية من بعدي، لا أنَالَهُمُ اللهُ شفاعَتي. ثمّ أَسَرّ إلى أسماء قائلاً: لا تُخبري فاطمة، فإنّها حديثة عهد بولادة». «6»

- آدم يبكي الحسين : روى صاحب الدرّ الثمين في تفسير قوله تعالى: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ «7». أنّه رأى ساق العرش وأسماء النبيّ والأئمّة فلقّنه جبرئيل قل: يا حميد بحقّ محمّد، يا عالي بحقّ عليّ، يا فاطر بحقّ فاطمة، يا محسن بحقّ الحسن والحسين ومنك الإحسان، فلمّا ذكر الحسين سالت دموعه وانخشع قلبه، وقال: يا أخي جبرئيل في ذكر الخامس ينكسر قلبي وتسيل عبرتي؟ قال جبرئيل: ولدك هذا يصاب بمصيبة تصغر عندها المصائب، فقال: يا أخي، وما هي؟ قال: يقتل عطشاناً غريباً وحيداً فريداً ليس له ناصر ولا معين، ولو تراه يا آدم وهو يقول: وا عطشاه واقلّة ناصراه، حتّى يحول العطش بينه وبين السماء كالدّخان، فلم يجبه أحد إلّا بالسيوف، وشرب الحتوف، فيذبح ذبح الشاة من قفاه، وينهب رحله أعداؤه وتشهر رؤوسهم هو وأنصاره في البلدان، ومعهم النسوان، كذلك سبق في علم الواحد المنّان، فبكى آدم وجبرئيل بكاء الثكلى. «8» ومن هنا يقول الشاعر مخاطبا الامام الحسين ويصف فيها حالة نبي الله أبو البشر آدم :

بكـاك آدم حزناً يوم توبته وكنت نوراً بساق العـرش قد سطعا

- رابعاً: تأسي بعض الأنبياء بالحسين .

نبي الله اسماعيل : عن الفضل بن شاذان قال: سمعت الرضا يقول: لمّا أمر الله تبارك وتعالى إبراهيم أن يذبح مكان ابنه إسماعيل الكبش الذي أنزله عليه، تمنّى إبراهيم أن يذبح ابنه إسماعيل بيده، وأنّه لم يؤمر بذبح الكبش مكانه، ليرجع إلى قلبه ما يرجع قلب الوالد الذي يذبح أعزّ ولده بيده، فيستحقّ بذلك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب، فأوحى الله عزَّ وجلَّ إليه: يا إبراهيم من أحبّ خلقي إليك؟ فقال: يا ربّ، ما خلقت خلقاً هو أحبّ إليّ من حبيبك محمّد فأوحى الله عزَّ وجلَّ إليه: يا إبراهيم أفهو أحبّ إليك أو نفسك؟ قال: بل هو أحبّ إليَّ من نفسي، قال: فولده أحبّ إليك أو ولدك؟ قال: بل ولده، قال: فذبح ولده ظلماً على أعدائه أوجع لقلبك أو ذبح ولدك بيدك في طاعتي؟ قال: يا ربّ، بل ذبحه على أيدي أعدائه أوجع لقلبي، قال: يا إبراهيم، فإنّ طائفة تزعم أنّها من أمّة محمّد ستقتل الحسين ابنه من بعده ظلماً، فأوحى الله عزَّ وجلَّ إليه: يا إبراهيم، قد فديت جزعك على ابنك إسماعيل، لو ذبحته بيدك بجزعك على الحسين وقتله وأوجبت لك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب، فذلك قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ «9»

نبي الله يحيى والحسين عليهما السلام: من المعلوم أن مصيبة نبي الله يحيى مشابهة لمصيبة الحسين من حيث طريقة الاستشهاد مع لحاظ الفارق أيضا بينهما في جوانب أخرى تُظهر عُظم مصيبة أبي عبد الله الحسين على سائر المصائب، جاء في زيارة جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنه يوم زار الحسين : «وأشهد أنك مضيت على ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريا. روي عن علي بن الحسين ، قال: خرجنا مع الحسين ، فما نزل منزلا ولا ارتحل عنه إلاَّ وذكر يحيى بن زكريا، وقال يوماً: من هوان الدنيا على الله أن رأس يحيى أهدي إلى بغيٍّ من بغايا بني اسرائيل». «10».

كما أنه لم يذكر في التاريخ أن السماء والأرض بكت على أحد غير شخصين هما الحسين بن علي ونبي الله يحيى بن زكريا عليه وعلى نبينا السلام وهذا المعنى عظيمٌ جدا لأهل الدراية والموعظة والتدبر.

السماء تبكي على الحسين بن علي : عن محمّد بن جعفر الرزّاز عن محمّد بن الحسين، عن الحكم بن مسكين، عن داود بن عيسى الأنصاري، عن محمّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن إبراهيم النخعي، قال: «خرج أمير المؤمنين فجلس في المسجد واجتمع أصحابه حوله، وجاء الحسين حتـّى قام بين يديه، فوضع يده على رأسه فقال: «يا بنيّ إنّ الله عبر أقواماً بالقرآن، فقال: «فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ» «11»، وأيم الله ليقتلنّك بعدي ثمّ تبكيك السّماء والأرض». «12».

وهذا نص في أن السماء بكت على الحسين ويحيى بن زكريا عليهما السلام، عن محمّد بن جعفر، عن محمّد بن الحسين، عن وهب بن حفص النحّاس، عن أبي بصير، عن مولانا أبي عبد الله ، قال: «إنّ الحسين بكى لقتله السّماء والأرض واحمرّتا، ولم تبكيا على أحدٍ قطّ إلاّ على يحيى بن زكريّا والحسين بن عليّ عليهما السلام». «13»

- خامساً: إقامة الأئمة للعزاء الحسيني:

إن مايميز مصيبة الامام الحسين عن مصائب سائر الائمة أنهم - أي الأئمة - بكوا جميعاً على الحسين ، وكانو يَعدّون مصيبة الحسين أعظم المصائب، وقد أخذت جانب كبير من توجيهاتهم وتوصياتهم لإبقاء حرارة المصيبة قائمة إلى يوم القيامة، وهذه التوصيات على إدامة العزاء والبكاء لم تردنا في مصيبة أخرى غير مصيبة الإمام ، حتى أنهم كانوا ينشدون الشعر في رثاء الحسين ، فتارة نرى مجالس العزاء والبكاء حتى قبل أن يولد ويشرق نور وجهه الكريم، وتارة أخرى نراها مستمرة في زمن كل إمام بنفس الحرارة وكأن الإمام قتل الساعة، وقد أوردنا بعض مواقف الحزن على مصيبة سيد الشهداء قبل ولادته، ونورد هنا بعض جوانب ذكر مصيبته سلام الله عليه أثناء حياته وبعد شهادته سلام الله عليه.

1. الإمام علي بن أبي طالب : عن جعفر بن محمّد، عن أبيه عليهما السلام قال: «مرّ عليّ بكربلا في اثنين من أصحابه، قال: فلمّا مرّ بها ترقرقت عيناه للبكاء، ثمّ قال: هذا مناخ ركابهم، وهذا ملقى رحالهم، وههنا تُهراقُ دماؤهم، طوبى لكِ من تربة عليكِ تُهراقُ دماء الأحبّة.» «14»

2. الامام زين العابدين : عن أبي عبد الله قال: «بكى عليّ بن الحسين على أبيه الحسين بن عليّ عليهماالسلام عشرين سنة أو أربعين سنة، وما وضع بين يديه طعاماً إلّا بكى على الحسين، حتّى قال له مولى له: جعلت فداك يا بن رسول الله، إنّي أخاف عليك أن تكون من الهالكين، قال: إنّما أشكو بثّي وحزني إلى الله، وأعلم من الله ما لا تعلمون، إنّي لم أذكر مصرع بني فاطمة إلّا خنقتني العبرة لذلك». «15»

3. الإمام جعفر بن محمد الصادق : يعتبر الامام روحي فداه من الائمة الأكثر حزنا وبكاء على مصيبة جده الحسين، حتى أن الأخبار تصف لنا بكاءه ونحيبه، عن ابن بصير قال: «كنت عند أبي عبد الله الصادق فدخل عليه ابنه، فقال: مرحباً وضمه وقبله. وقال حقر الله من حقركم، وأنتقم ممن وتركم، وخذل الله من خذلكم، ولعن الله من قتلكم وكان الله لكم ولياً وحافظاً وناصراً. فقد طال بكاء السماء وبكاء الأنبياء والصديقين والشهداء وملائكة السماء، ثم بكى، وقال: يا أبا بصير، إذا نظرت إلى ولد الحسين آتاني ما لا أملكه بما أوتي إلى أبيهم وإليهم. يا أبا بصير إن فاطمة لتبكي...» ثم يستطرد الإمام فيقول: «أما تحب أن تكون فيمن يسعد فاطمة فبكيت حين قالها فما قدرت على النطق من البكاء». «16»، عن خالد بن سدير عن الصادق قال: «لقد شققن الجيوب، ولطمن الخدود الفاطميات على الحسين بن علي ، وعلى مثله تلطم الخدود، وتشق الجيوب..». «17».

4. الامام موسى بن جعفر : «عن الإمام الثامن علي بن موسى الرضا المدفون في مشهد طوس بخراسان في إيران أنه قال: «كان أبي إذا دخل محرم لا يرى ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى تمضي منه عشرة أيام، فإذا كان اليوم العاشر منه كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه، ويقول: هو اليوم الذي قتل فيه جدي الحسين». «18»

5. الامام الرضا : قال: «إن المحرم شهر كان أهل الجاهلية يحرمون فيه القتال، فاستحلت فيه دماؤنا، وهتكت فيه حرمتنا، وسبي فيه ذرارينا ونساؤنا، وأضرمت النار في مضاربنا، وانتبهت ما فيها من ثقلنا، ولم ترع لرسول الله حرمة في أمرنا. إن يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذل عزيزنا بأرض كرب والبلاء، وأورثنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء، فعلى مثل الحسين فلبيك الباكون، فإن البكاء عليه يحط الذنوب العظام». «19»

6. أما إمامنا وسيدنا ومولانا صاحب العصر والزمان الامام الثاني عشر المهدي المنتظر: فيكفي ماقاله سلام الله عليه وعجل الله فرجه وسهل الله مخرجه في زيارة الناحية المقدسة المروية عنه: «يا جدّاه، لَئِنْ أخّرتني الدّهور، وعاقني عن نصرك المقدور، ولم أكن لمن حاربك محارباً، ولمن نصب لك العداوة مناصباً، لأندبنّك صباحاً ومساءً، ولأبكينّ عليك بدل الدّموع دماً». خير دلاية على عظم مصيبة الامام الحسين .

- سادساً: الروايات الواردة في فضل البكاء على الحسين .

أما الروايات المستفيضة الداعية إلى إقامة العزاء والبكاء وإحياء ذكرى مصيبة الامام الحسين فهي كثيرة نورد بعض منها:

1. عن عبد الله بن سنان قال: «دخلت على سيدي أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام في يوم عاشوراء، فألفيته كاسف اللون الحزن، ودموعه تنحدر عن عينيه كاللؤلؤ المتساقط، فقلت: يا بن رسول الله، مم بكاؤك لا أبكى الله عينيك؟ فقال لي: أو في غفلة؟ أما علمت أن الحسين بن علي عليهما السلام أصيب في مثل هذا اليوم؟ «20»

2. عن أبي جعفر الباقر قال: من زار الحسين يوم عاشوراء، «إلى أن قال» ثم ليندب الحسين ويبكيه، ويأمر من في داره ممن لا يتقيه بالبكاء عليه، ويقيم في داره مصيبة باظهار الجزع عليه، ويتلاقون بالبكاء بعضهم بعضا في البيوت، وليعز بعضهم بعضا بمصاب الحسين ، فأنا ضامن لهم إذا فعلوا ذلك على الله عز وجل جميع هذا الثواب - اي ألفي ألف حجة وألفي ألف عمرة وألفي ألف غزوة، - إلى آخر ما تقدم في باب زيارته في يوم عاشوراء - فقلت: جعلت فداك وأنت الضامن لهم إذا فعلوا ذلك والزعيم به؟ قال: أنا الضامن لهم ذلك، والزعيم لمن فعل ذلك، قال قلت: فكيف يعزي بعضهم بعضا؟ قال: يقولون: عظم الله أجورنا بمصابنا بالحسين ، وجعلنا وإياكم من الطالبين بثأره مع وليه الإمام المهدي من آل محمد ، فإن استطعت أن لا تنتشر يومك في حاجة فافعل، فإنه يوم نحس لا تقضى فيه حاجة مؤمن، وإن قضيت لم يبارك له فيها ولم ير رشدا، ولا تدخرن لمنزلك شيئا فإنه من ادخر لمنزله شيئا في ذلك اليوم لم يبارك له فيما يدخره ولا يبارك له في أهله، فمن فعل ذلك كتب له ثواب ألف ألف حجة، وألف ألف عمرة، وألف ألف غزوة، كلها مع رسول الله ، وكان له ثواب مصيبة كل نبي ورسول وصديق وشهيد، مات أو قتل منذ خلق الله الدنيا إلى يوم القيامة. «21».

3. عن فضيل عن أبي عبد الله قال: «من ذكرنا عنده ففاضت عيناه ولو مثل جناح الذباب، غفر له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر». «22».

لماذا الحسين ؟

من هنا يتبين لنا لماذا الحسين دون سائر الأئمة تقام لمصيبته كل هذا العزاء والبكاء والنحيب. إن الحزن والبكاء على مصيبة الامام الحسين حصل منذ أن أوجد الله سبحانه وتعالى هذا الكون وسيبقى إلى قيام يوم الدين، وليس صحيحاً بأن البكاء وإقامة العزاء على الحسين لايختلف عن أي بكاء أو عزاء على شخصية عظيمة أخرى، فلعمري هناك فرق كبير بين من ارتبطت قضيته بالسماء وبالمشروع الإلهي الرباني وبالرسالة المحمدية العلوية، وبين من ضحّى من أجل مصالح دنيوية ومشاريع سلطوية، فالبكاء على الحسين هو بكاء لله سبحانه وتعالى وارتباط بالله، فمشروع الحسين هو مشروع الله، ومشروع الله هو مشروع الحسين ، «إن الحسين بن علي فيالسماوات، أعظم مما هو في الارض» والدموع التي تذرف على ريحانة رسول الله تختلف تماما عن باقي الدموع ولو تشابهت في الظاهر أما في الباطن فالاختلاف عميق، يقول أمير المؤمنين : «إن الزاهدين في الدين تبكي قلوبهم وإن ضحكوا» «23». إذاً ليس البكاء فقط هو الحالة الفيزيولوجية بل أن تبكي حقيقة أن تشعر بأصل المصيبة، وأن تحاول ان تسير على منهج من تبكي لأجل قضيته، لا أن تستذكر ماجرى كقصة عابرة وتمضي، وهذا مايحصل مع الباكين على الحسين ، فتراهم في منعطفات التاريخ قد غيرو أمم بأكملها، وثورة الحسين معلنة مشرعة في وجه كل ظالم إلى يومنا هذا وفي كل زمان، وقد تحدّث الكثير من أصحاب الثورات من غير المسلمين عن جوهر نجاحهم ألا وهو تأسيهم بالحسين .

وفي الختام أقول:

لايوجد في الاسلام على امتداد التاريخ والعصور يوم أقسى وأصعب وأشد من يوم أبي عبد الله ، الذي ضحى بنفسه في سبيل الله عز وجل ليعيد لهذه الأمة البائسة الميتة حياتها الكريمة ويعطيها الحرية والكرامة والأمن والأستقرار، فكان جزاؤه أن وقفت في وجهه مجموعة من حثالة البشرية لتستبيح دمه بوحشية لم يرَ التاريخ لها شبيه في فظاعتها وحقدها ودمويتها، ليرتد عليهم الأمر عاجلاً فخسروا دنياهم وآخرتهم آلا لعنة الله على القوم الظالمين. وعادت نفس الحسين راضية مطمئنة إلى ربها الكريم: «يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي». «24»

1). المستدرك: ج: 10 ص: 318
2). بحار الأنوار ج 9 ص 147.
3).علل الشرائع: ص226 باب العلة التي من أجلها صار يوم عاشوراء أعظم الأيام مصيبة ح2.
4). المحدث النوري مستدرك الوسائل ج: 10 ص: 319
5). الكافي 1/464.
6). روضة الواعظين: 154.
7). سورة البقرة 37
8). بحار الأنوار ج: 44 ص: 245
9). عيون أخبار الرضا عليه السلام، ج 1، ص 209، المجلسي, بحار الأنوار، ج 12، ص 125
10). المجلسي : 45/89 ح 28.
11). سورة الدخان آية 29
12). بحار الأنوار ج: 45 ص: 209
13) بحار الأنوار ج: 45 ص: 209
14). بحار الأنوار، ج 44، ص 258.
15). كامل الزيارات، ص 107.
16). المستدرك: ج 10 ص: 314
17) التهذيب: ج8 ص: 325
18) وسائل الشيعة ج: 14 ص: 504
19). بحار الأنوار ج: 44 ص: 283
20). مستدرك الوسائل ج: 10 ص: 317
21). مستدرك الوسائل: ج: 10 ص: 315
22). وسائل الشيعة: ج: 14 ص: 500
23). شرح نهج البلاغة ج:7 ص: 246
24) سورة الفجر 27