كيف يصبح الضمير العام مستترا؟!

النحاة العرب هم من اخترع مصطلح الضمير المستتر، وأظن أن السياسة كانت حاضرة بقوة في النحو، إذ جعل النحاة - بذكاء يحسدون عليه - الفاعل مرفوعا دائما، أيا كان الفاعل، أليس هو صاحب القوة؟!
 وإمعانا في رفعه قرروا أن تكون علامته الأصلية الضم، وهكذا يكافؤ الفاعل بالقبلات والضم في الأحضان، وجعلوا المفعول به – أيا كان - منصوبا دائما لأنه ضعيف لا قوة له، والعلامة الأصلية للنصب هي الفتح، ولا يحتاج الأمر هنا إلى تعليق، خصوصا إذا ارتبط الفتح في ذاكرتنا بفتح الأيدي في المدارس لتلقي العلقة ممن نحسبهم معلمين وما هم بمعلمين، كما أعطى النحاة لبعض الحروف قوة الجر، والجر هو الخفض، فحرف واحد تتفوه به يستطيع أن يخفضك ويجرك رغم شواربك المفتولة. ومما يؤكد حضور السياسة في النحو هو ارتباط السلامة بالسكون في القول المشهور ( سكن تسلم )، فمن أراد السلامة فليختر السكون.
ولعل العدوى انتقلت من الممارسة النحوية إلى الممارسة الاجتماعية، فالضمير العام الذي كان بارزا وظاهرا وعصيا على الاستتار لم يعد كذلك، وسادت حالة اللامبالاة تجاه الشأن العام أو تجاه من يشتغلون به، بل أصبح المشتغلون به في موقع الاتهام في أحايين كثيرة.
الضمير الاجتماعي هو الذي يتعاطى مع الظواهر العامة، فإذا كان الضمير بارزا فإنه يشكل مناعة ضد كافة الانحرافات، أما إذا تحول إلى ضمير مستتر تقديره هو فإن ذلك يعني تبلد الشعور وسيادة حالة التطبيع مع ظواهر الفساد والانحراف. والمسألة لا تكون مفاجئة ولكنها تتدرج شيئا فشيئا، ففي فترة من الفترات كانت المجاهرة باستماع الأغاني أمرا مستهجنا في مجتمعنا مثلا، ثم بدأ الأمر يأخذ دورة أخرى حتى وصلنا إلى مرحلة التطبيع مع الأغاني الصاخبة والماجنة، شرقيها وغربيها،  التي تلوث شوارعنا وأسماعنا، ولا تجد من ينكرها، أو يتصدى لها بشكل علمي مدروس.
ومن الأمثلة كذلك الرشوة التي لم تعد عيبا، بل أصبحت قاعدة وما سواها استثناء، فإذا أردت لمعاملة أن تسير على ما يرام فما عليك إلا أن ( تدهن السير ) لتنزلق المعاملة بسرعة تعتمد على نوع الدهن المستخدم. ومن الأمثلة أيضا الواسطة أو المحسوبية التي لم تستثنِ قطاعا من القطاعات أو مؤسسة من المؤسسات، فللحصول على الوظيفة واسطة، وللنقل واسطة، وللترقية واسطة، ولدخول الجامعة واسطة، وحتى لدخول بعض المستشفيات العامة تحتاج لواسطة. وهكذا غدا الناس لا يخشون الحديث عن الواسطة، بل يتفاخرون بواسطاتهم، فالواسطات أنواع ومستويات، وما للفقير أو الضعيف إلا الانتظار في نهاية الطابور حتى يأتيه الدور أو الموت، والثاني أقرب.
والضمير الاجتماعي كما يتعرض للاستتار، فإنه قد يتعرض للتشويه، وذلك حين يكيل بمكيالين، فهو متيقظ في القضايا المتصلة بفئته أو جماعته أو طائفته، ويغط في سبات عميق حين تتعرض فئة أو جماعة أو طائفة أخرى لنفس القضايا. هو يدين الإرهاب حين يقع عليه، لكن يغض النظر حين يقع على  الآخرين، هو يتحدث عن حرية التعبير كحق له، أما الآخرون فلا غضاضة في تكميم أفواههم. هذا النوع من الضمير لم يذكره النحاة في كتبهم، ولعله لم يكن معروفا أيام الخلاف بين البصريين والكوفيين، أما اليوم فخلافاتنا في الغالب خالية من الضمير.
التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 6
1
ابراهيم بن علي الشيخ
23 / 10 / 2009م - 10:53 ص
كم أنت جميل ( يا أبا أحمد ) في خفة إسلوبك ، ورشاقة قوام كلماتك التي لا تستتر عن الحق والصدع به ، تُجيد تسكين الحروف حيث تتجلى المعاني العميقة ، وترسم بريشتك أفكاراً تنير الدرب الموحش في زمن تراوغ فيه معظم ( العلامات الراشدة ) . تستدعي ضمير الغائب فيأتي مطيعاً في شمس الهجير ، وتستنطق صمت ( الماورائيات ) فتنساب حديثاً على صفحة الواقع المُعاش . في كل زخة حبر من ( يراعك الأمين ) أستنشق نسيما ربيعياً في عز الخريف ، أأنس بك متحدثاً ، وكاتباً كما صامتاً في وقار . سلمت أيها الحصيف .
2
بدر الشبيب
[ أم الحمام - القطيف ]: 23 / 10 / 2009م - 10:37 م
أخي العزيز أبو علي:
لا أستطيع أن أجاري أناقتك الأسلوبية المتكاملة مع أناقتك مظهرا ومخبرا.
يعلم الله كم آنس بحديثك وتعليقاتك التي تعودت عليها قبل زمن الانترنت بل قبل زمن الهاتف.. ربما يسأل البعض عن عمر صداقتنا.. لن أجيبه حتى لا أكشف سر عمرك أقصد سر عمري، فأنت لا تزال شابا بل في عنفوان شباب العطاء.
تحياتي لظلك الخفيف وقلبك الشفيف.
3
احمد العزيز
[ السعودية - القطيف ]: 24 / 10 / 2009م - 8:09 م
عزيزي الأستاذ بدر _ وفقه الله
كما قال الشاعر / ومانيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
فالسياسة أو تسييس الدين لاشك انها أحد أسباب غياب الضمير العام والخاص , والمسؤولية تقع على عاتق الجميع ولكنها تتجلى كل التجلي على من تقع مصالح الناس بين أيديهم
على الأب والأم والمعلم ورجل الدولة ورجل المجتمع , لأننا دخلنا منزلقا خطيرا في تعاملاتنا الأخلاقية ينبيء بالخوف من المستقبل
بورك قلمك , وسلمت أناملك
تحياتي .
4
بدر الشبيب
[ أم الحمام - القطيف ]: 25 / 10 / 2009م - 10:30 م
عزيزي الأستاذ أحمد العزيز
أشكرك على منح مقالي بعض وقتك.. وأتفق معك في خطورة تسييس الدين والأضرار التي نجمت وتنجم عن ذلك..
كما أوافقك الرأي في ضرورة تحملنا جميعا المسؤولية عن إصلاح الوضع المتردي.

أشكرك مرة أخرى.. دمت مفكرا أيها العزيز.
5
المستقل
[ ام الحمام - القطيف ]: 27 / 10 / 2009م - 1:05 ص
استاذي العزيز اكدت من خلال هذا الموضوع انك ضميرا حيا لا يمكن له ان يستتر تناولت بقلمك الساحر لقضيه في غايه الاهميه مستفيدا من تسيس قواعد النحو لتقدمها بقالب في غاية الجمال مختوم عليه حقوق الفكره محفوظه للاستاذ بدر ( ابو احمد ) . اتناول هنا سؤال لماذا نحن نرتضي دائما و ابدا لانفسنا ان نكون مفعول به و لا نكون فاعلا نرى بأم اعيننا الفساد الاداري و الاجتماعي يتفشى بيننا و حال لساننا سكن تسلم لمذا لا نتحول الى فاعلا للخير و نغير قواعد اللعبه و نجعل من الفاعل للشر مفعولا به و نجعل من المفعول به فاعلا للخير مع بقاء علامته الاصليه الضم حتى يستطيع بوعيه و صدقه ان بضم كل الاصوات الخيره له من باب (و تعاونوا على البر و التقوى و لا تعاونوا على الاثم و العدوان ) .و لك مني محبة و احترام لضميرك المتصل .
6
بدر الشبيب
[ أم الحمام - القطيف ]: 28 / 10 / 2009م - 12:27 م
أخي وعزيزي الأستاذ المستقل:
لقد أكدت أنت أيضا هنا أنك معلق حاضر لا يستتر ولا يغيب، وأنك ضمير دائم الاتصال بالواقع ولا ينفصل عنه.
نحن نحتاج إلى أن نغير واقعنا من خلال العمل الدؤوب على تكريس قيم التعاون والبناء لتبديل قواعد اللعبة.
شكرا لك على إضافاتك القيمة وإطلالتك الجميلة.
شاعر وأديب