التفاخر في أحدث إصداراته

#دقيقة_تأمل : اليوم تعاني كثير من البيوت من وقوعها فريسة سائغة في فم بعض وسائل التواصل الاجتماعي التي تنشر ثقافة التفاخر والتباهي وتتسبب في كوارث أسرية على المستويين النفسي والاقتصادي وغيرهما. في الماضي كان التراحم هو السمة الغالبة في المجتمع، وكان لتفقد الجار ومراعاة أحواله حظ موفور. أما بعد سيادة ثقافة الاستهلاك وتحولها إلى مصدر هام من مصادر القيمة والمكانة، فقد أصبح يُنظر للأكثر استهلاكا باعتباره شخصا مميزا ذا حظ عظيم، يغبطه من يغبطه ويحسده من يحسده، وتتمنى مكانه شريحة واسعة من الناس.

من له أدنى عُلقة بالشأن الاجتماعي يلحظ حالات متزايدة من الشكوى من المقارنات التي لا تنتهي بين ظاهرِ حال وواقع حال آخر. تفتتن هذه أو تلك بما تنشره الأخريات على مواقع التواصل من مشتريات أو مقتنيات أو هدايا أو تغطيات لحظية لأوقات المقاهي والمطاعم والرحلات والمناسبات والسفر. ثم تأتي مرحلة ما بعد الافتتان، وهي المقارنة بين الحال والحال دون مراعاة الفوارق والإمكانات، ويمكن أن نسميها مرحلة الاحتراق الداخلي. تبدأ بحديث النفس أو المونولوج، وربما يكون السيناريو هكذا: ما أسعد تلك المرأة! تشتري دائما أحدث الموديلات وأحسن الماركات! وتحصل على أفضل الهدايا الثمينة! وتقضي أجمل الأوقات متنقلة من مكان فخم لآخر أفخم!. تُرى ما الذي يميزها عني؟! لماذا أنا هكذا حالي وهي حالها كذلك؟! يا لتعاستي! يا لسوء حظي!!!.. ثم تعقبها مرحلة التذمر والشكوى لزوجها ومن حولها، فإن كان ثمة تجاوب، تنفست بعض الشيء، وإلا بلغت مرحلة الانفجار التي قد تحرق أخضر العلاقة الزوجية ويابسها، خصوصا إذا لم يتم احتواء الموقف وتداركه، أو لم يتفهم الطرف الآخر الدوافع النفسية لذلك السلوك، ومارس سياسة شد الحبل حتى النهاية.

قد يكون هذا السيناريو هو الأكثر شيوعا، وبالتالي الأعمق أثرا في المجتمع، إلا أنه ليس الوحيد بالتأكيد.

المتأمل في آيات الكتاب الحكيم يدرك أننا ابتعدنا كثيرا عن ثقافته ومنظومة قيمه، واستبدلناهما بثقافة رأسمالية استوردناها، أخذت منا الكثير، وأعطتنا اليسير اليسير. ولعل على رأس ما أخذت منا القناعة والرضا والشكر، لتحل محلها التذمر والتضجر والتحسر. لنتأمل فيما يريده القرآن منا في هذا الصدد من خلال النقاط التالية:

1 - النظرة إلى حياة التفاخر، وأنها عابرة لا قيمة لها: «اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ».

2 - الدعوة إلى التنافس الشريف والعمل الصالح المرتبطين بالمستقبل الكريم: «خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ» «إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ».

3 - عدم الانشغال بما عند الغير من متاع الحياة الدنيا: «وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى‏ ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى‏». وقد ورد في دعاء مكارم الأخلاق «وَلاَ تَفتِنِّي بِالنَّظَرِ» على إحدى القراءتين لهذه الفقرة.

4 - عدم إهدار العمر والصحة في التمنيات الفارغة، واستبدال ذلك بالسعي لطلب الرزق وسؤال الله من فضله: «وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى‏ بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيماً» والرزق هو أحد مجالات التفضيل: «وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى‏ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ».

5 - عدم تكليف الطرف الآخر فوق وُسعه، وانتظار اليُسر بعد العسر: «لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً».

نحن مدعوون جميعا إلى الإقلاع عن نشر ثقافة إدمان التفاخر، وإلى مراعاة مشاعر الآخرين، وإلى ترسيخ ثقافة القناعة والعمل حفظا للكيانات الأسرية من التفتت والتشرذم.

شاعر وأديب