هي أشياء لا تشترى!

عنونت مقالي بكلمات لا تشترى من القصيدة الخالدة للشاعر الراحل أمل دنقل: لا تصالح. وأجزم أن أمل دنقل لو كان حاضرا في زماننا لمات أسفا بعد حالة الإسفاف التي وصل إليها الوضع العربي بشكل عام والفلسطيني بشكل خاص، خصوصا بعد فضيحة تقرير جولدستون، فلم يعد الأمر كما يطلبه أمل دنقل في رفضه لمصالحة العدو، بل تنازل القوم وتنازلوا حتى أصبحوا يخشون توجيه الإدانة للعدو الصهيوني على بعض جرائمه المستمرة منذ أكثر من ستين عاما.
على كل حال، سأتحدث هنا عن أشياء لا تشترى أيضا، وهي عبارة عن كلمات نورانية صادقة صدرت من رجل أجمعت الأمة على عظيم منزلته، وهو الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام.
قد يقول البعض: وما قيمة الكلمات، أليس العرب ظاهرة صوتية – كما يقول عبد الله القصيمي -؟
نقول: إذا كان العرب في زمن القصيمي ظاهرة صوتية، فإنهم في الوقت الراهن ظاهرة صمتية بامتياز؛ تصمت حتى عن أبسط حقوقها، هذا أولا، وثانيا نحن لسنا بصدد كلمات جوفاء يطلقها سياسي متمرس للاستهلاك غير الآدمي طبعا، يضحك بها على ذقون الناس، يعدهم ويمنيهم ثم يلحس وعوده حين يحتضنه الكرسي الدوار الذي يسكر قليله، فكيف بكثيره؟!؛ بل نحن بصدد الحكمة ضالة المؤمن التي من يؤتاها فقد أوتي خيرا كثيرا، نحن في حضرة الكلمات الخبيرة بالإنسان وحاجاته المادية والنفسية والعقلية والروحية؛ الكلمات التي تصنع التغيير من الداخل للخارج، أعني من داخل النفس إلى خارجها.
أولى هذه الكلمات تتحدث عن المعيار الذي يصبح به المجتمع مقدسا أو منزوع التقديس، وذلك في قوله عليه السلام: "ما قدست أمة لم يؤخذ لضعيفها من قويها بحقه". فالمجتمع الذي يستحق القداسة هو مجتمع القانون الذي تسوده قوة الحق لا حق القوة؛ فالضعيف يستطيع الحصول على حقه المشروع حتى إن كان خصمه من فئة الأقوياء والسوبرمان، وفي المقابل لا قيمة لمجتمع يشعر فيه المواطن العادي أنه مغلوب على أمره في مقابل أصحاب النفوذ والسلطان، يندب حظه العاثر مناديا ( أنا غلبان ).
في كتابه ( عن الفساد وسنينه ) يتساءل فهمي هويدي: ما الذي يستطيع المواطن العادي في مصر أن يفعله إذا وقع في مشكلة، وشاءت حظوظه أن يكون طرفها الآخر وزيرا؟
ويضيف معلقا: هذا السؤال لا يطرح في الأساس في أي بلد ديمقراطي، حيث يتساوى الجميع أمام القانون، الوزير منهم والخفير. أما في بلادنا، فالمسألة فيها نظر، إذ لا تعلو العين على الحاجب، والمواطن مأخوذ برصيده؛ فوحده الذي معه قرش يساوي قرشا.
ثاني هذه الكلمات تتحدث عن مثلث الحاجات الأساسية التي لا يستغني عنها أحد؛ وهو يختلف عن هرم ماسلو المعروف في جامعاتنا أكثر من هذا المثلث، ماسلو كان ينظر إلى الحاجات الفردية، أما الإمام الصادق عليه السلام فهو ينطلق من منظور اجتماعي أوسع فيقول: ثلاثة أشياء يحتاج إليها الناس طرا: الأمن، والعدل، والخصب.
 السؤال: كم نصيب مجتمعاتنا من أضلاع هذا المثلث؟!
وأختم بثالثة الكلمات، وهي كلمة جامعة مانعة، عبارة عن 3 في 3 أي تسعة أشياء بحسب تعبير الإمام، وهي بالتأكيد أشياء لا تشترى، لا يعرفها إلا أمثال عنوان البصري، الرجل التسعيني الذي يبحث عن الحكمة عند الإمام الصادق : يا أبا عبد الله أوصني.
وهنا ينبري الإمام الصادق عليه السلام ليوصيه بأشياء توصله إلى الله، وتنفع كل مريد بعده، وقبل أن أنقل الوصية التي لا تشترى أود التأكيد على ضرورة تدبرها واستيعابها، وبالأخص الثلاث الوسطى.
قال الإمام الصادق عليه السلام:
 أوصيك بتسعة أشياء، فإنها وصيّتي لمريدي الطريق إلى اللّه تعالى، واللّه أسأل أن يوفّقك لاستعمالها، ثلاثة منها في رياضة النفس، وثلاثة منها في الحلم، وثلاثة منها في العلم، فاحفظها وإِيّاك والتهاون بها، قال عنوان : ففرَّغت قلبي له، فقال :
 أمّا اللواتي في الرياضة فإيّاك أن تأكل ما لا تشتهيه، فإنه يورث الحماقة والبله، ولا تأكل إِلا عند الجوع، وإذا أكلت فكل حلالاً وسمّ اللّه واذكر حديث الرسول صلّى اللّه عليه وآله «ما ملأ آدميّ وعاءً شرّاً من بطنه»، فإذا كان ولا بدّ فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لِنَفسه.
 
وأمّا اللواتي في الحلم، فمن قال لك : إِن قلت واحدة سمعت عشراً، فقل له : إِن قلت عشراً لم تسمع واحدة، ومن شتمك فقل له : إِن كنت صادقاً فيما تقول فأسأل اللّه أن يغفر لي، وإِن كنت كاذباً فيما تقول فاللّه أسأل أن يغفر لك، ومَن وعدك بالخناء[1]  فعده بالنصيحة والرعاء[2] .
وأمّا اللواتي في العلم، فاسأل العلماء ما جهلت، وإِيّاك أن تسألهم تعنُّتاً وتجربةً، وإِيّاك أن تعمل برأيك شيئاً، وخُذ بالاحتياط في جميع ما تجد إليه سبيلاً، واهرب من الفُتيا هربَك من الأسد، ولا تجعل رقبتك للناس جسراً.
1-الخناء: الخيانة
2-الرعاء: الوفاء
التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 4
1
ابراهيم بن علي الشيخ
15 / 10 / 2009م - 3:28 م
أخي الحبيب : الأستاذ بدر الشبيب
هكذا أنت تجيد فن التنقيب عن ( الدُرر ) وتقدمها لنا في قالب معرفي يسد رمقنا اللاهث وراء لقمة المعرفة في وقت تسيطر على أقنيته ( الوجبات السريعة ) التي تفتقر لأبسط المواصفات الصحية . وما أجمل طعامك هذا ، وما أنقى موائدك القادمة من مطبخ العترة الطاهرة حيث تفوح منها رائحة البهارات السرمدية ، فيشفى العليل ، ويعز الذليل ، وتسمو المناقب من عُمق الغدير . طيب الله بنانك .
2
المستقل
[ ام الحمام - القطيف ]: 15 / 10 / 2009م - 3:41 م
الاستاذ الحبيب صاحب الولائيات الجميله ابو احمد اتفق معاك بأن الامه تحولت من امة صوتيه الى امه صمتيه كما نقول السكوت علامة الرضا فهم راضون عما ينتهكه الاخرون فينا من اغتصاب لحقوقنا و عما ينتهكون هم انفسم لحقوقنا . اما لطرحك للكلمات الدهبيه للامام الصادق لفت انتباهي كلمته في خصوص العلم ( و اهرب من الفتيا هروبك من الاسد ) ليته يعيش حاضرنا اليوم و يرى كيف يقاتل البعض بأن يتربع على كرسي الافتاء بلا حق و يدعي لنفسه ما لا يستحقه و لا يتورع الاغلب من طرح الفتاوى بدون تدقيق لا لشيء و لكن لتحقيق غروره بنفسه و حبه للظهور و كم رأينا ذلك باعيننا . فعذرا يا سيدي لتعكيري حلاوة ما تطرح بهذه المداخله التشائميه و لك مني الف تقدير و اعجاب لفكرك النير و الى اناملك الساحره .
3
بدر الشبيب
[ أم الحمام - القطيف ]: 15 / 10 / 2009م - 6:35 م
أخي وحبيبي الأستاذ ابراهيم الشيخ:
وهكذا أنت نهم للمعرفة القيمة التي تصدر عن أهل بيت الحكمة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة.
هكذا أنت تجيد هضم النصوص وتمثلها.
هل أقول لك: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا.
4
بدر الشبيب
[ أم الحمام - القطيف ]: 15 / 10 / 2009م - 6:56 م
أخي العزيز الحبيب المستقل
واقعنا - كما وصفته يا عزيزي - صمت على اغتصاب الحقوق من جهة، وبأسنا بيننا شديد من جهة أخرى.
ولا مخرج لنا إلا بالعودة الحقة الصادقة إلى الينابيع الصافية والأخلاق السامية لأهل بيت العصمة والطهارة.
تعجزني مداخلاتك السديدة عن القيام بتأدية واجب شكرها.
تحياتي لفكرك وقلبك وقلمك.
شاعر وأديب