منصور سلاط كذاكرة ثقافية

عرفت «منصور صالح سلاط» أول ما عرفته كصاحب مكتبة تسمى «مكتبة القطيف»، كانت تقع إلى الشمال من منطقة القلعة بمدينة القطيف، وفي مبنى يقابل الساحة المعروفة اليوم بساحة بيع الكتب. لا أتذكر الآن بالتحديد اليوم الذي التقيته فيه، لكنه كان في أحد سِني النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي. ففي الوقت الذي انتشرت حينها المكتبات التي تبيع الكتب الدينية، كانت مكتبة «منصور» مختلفة من حيث تنوع معروضاتها من الكتب والمجلات الثقافية والأدبية والفكرية.

أذكر أنني يوم ذاك ذهبت بصحبة مجموعة من الأصدقاء لزيارة المكتبة ومشاهدة جديدها من الكتب. ما أن دخلنا حتى رحب بنا بلطف وود. كان حين رأيته يلبس زي أهل القطيف التقليدي المعروف، ويضع قترته على رأسه بطريقة ناس المنطقة الأوائل، أي بلف طرفيها الأماميين فوق بعض على الرأس من دون عقال. إذ بدى الرجل من خلال هندامه، وطريقة لبسه، بأنه يتسم بالبساطة، كما أوحى عن تواضع شخصيته.

حين كنا نطالع عناوين الكتب ونتصفحها، لاحظت انهماكه مع زميل له في إخراج بعض الكتب من صناديقها، إذ بدت وكأنها حديثة الوصول. ومع انشغاله في توزيع الكتب على الأرفف وتنظيمها، كان بين حين وآخر يأتي إلينا لإرشادنا على عناوين الكتب الجديدة، أو الكتب التي كان لها حظ البيع. كان يأتي ويذهب ويتحرك بفاعلية ونشاط، فقد بدت عليه الهمة والحيوية وهو يتنقل في أرجاء مكتبته الصغيرة، فقد بدى من خلال شكله ومظهره بأنه صاحب بنية جسدية قوية، وبدن ممتلئ صحيح ومتعافي.

لقد كان ذلك عن أول معرفة لي بالرجل، أما عن أول تعرف لي عليه فقد كان في سِني تسعينيات القرن الماضي، وذلك حين كنت في زيارة لأحد الأصدقاء. فقد دخل كما أذكر هو وبصحبة آخرين إلى المجلس، إلا أنني لم أعرفه ولم أتذكره، مع أنه ظهر بنفس الهندام الذي رأيته عليه أول مرة، لكنه ظهر بشكل مختلف، إذ بدى نحيل الجسم، وملامحه تشي بالكبر، والشيب يغزو وجهه.

عندما جرى تبادل الأحاديث بين الحاضرين لفتني أسلوب كلامه، وجودة حديثه، وإجادته الحديث والنقاش. وشدتني لغته، وصياغته لجمله وعباراته، وما يستخدم من مفردات. فلم أتوقع أن يكون هذا الرجل الكبير، المتواضع في لبسه ومظهره بهذا العمق الثقافي والمعرفي، في الوقت الذي كان أيضاً يحظى فيه باحترام الحاضرين وتقديرهم.

همست لمن كان بجانبي عمن يكون هذا الرجل. وما أن نطق باسمه حتى تذكرته وعرفته على الفور، كونه ذاك الرجل صاحب مكتبة بيع الكتب. غير أن عامل الزمن، وما طرأ من تغير كبير ولافت على شكله وفي ملامحه كان سبباً في عدم قدرتي على التعرف عليه أو تذكره، بالإضافة إلى أنني لم أكن أدرك حين التقيته أول مرة بأنه على هذا المستوى المعرفي والثقافي الرفيع.

منذ هذا اللقاء الأخير الذي جمعني «بمنصور» مازالت علاقتي معه مستمرة. فطوال السنين الماضية ظللت التقيه بين فتره وأخرى، سواء في المحافل الثقافية والمنتديات الأدبية، أو حين نتبادل وإياه والأصدقاء الزيارات واللقاءات، والتي تمتد بالساعات الطوال، حيث يتخللها دائماً الحديث والنقاش الممتع في مختلف القضايا والشؤون، فهو مثقف مطلع، ومتعدد الاهتمامات المعرفية، فحضوره دائماً يمثل إضافة نوعية، لثقافته الواسع، وعقله اليقظ، وعمق أفكاره، وحلاوة حديثه، وبلاغته في الإيجاز، وألق بيانه، وأناقته في صياغة الجمل، فهو يختصر الأفكار بكلام قليل، وبشكل بليغ.

لقد أتاحت لي هذه اللقاءات التعرف عليه عن قرب، فهو بالإضافة إلى تميزه الثقافي وسعة اطلاعه وتعدد معارفه، ذو خصال إنسانية طيبة، فمنذ عرفته لمست فيه الإنسان الطيب المتواضع، المتسم بدماثة الخلق الرفيع. فهو غير متعالي، بل دائماً ما يكون الجلوس معه ممزوجاً بالبساطة والتواضع وطيب المعشر. فهو إذ لا يملك من حطام الدنيا أي رصيد، إلا أن ثروته الحقيقية هي في رصيده الفكري، وروحه الطيبة، وأصدقائه المحيطين به، وقلبه النابض بالحب لمن هم حوله.

من ميزاته العديدة تواصله مع الآخرين، وانفتاحه على الرأي الآخر واحترامه، والتفاعل مع الاتجاهات الثقافية المتنوعة من موقع الحوار والنقاش. فهو صاحب ذهن متقد، تستأنس بالجلوس وإياه، وتستمتع بالتحاور معه، مما يجعله موضع تقدير واحترام الجميع على اختلاف مللهم ومشاربهم. فهو إلى جانب التعبير عن رأيه، أو اختلافه مع آراء الآخرين، فإنه في الآن ذاته دائماً ما يجد أو يفتش عن المشتركات معهم.

وعلى الرغم من أنه يعيش ظروف صحية غير مستقرة مند زمن، بسبب مرض السكر الذي يعاني منه، حيث تشتد عليه نوباته بين حين وآخر، إلا أنه ظل دائماً في حالة تفوق، رغم الأضرار والإصابات الجانبية التي تلحق بجسده، إذ لم ينل المرض من عزيمته وصموده وحيويته، واتقاد عقله، وحبه للمعرفة، فمازال الرجل قارئاً ومتابعاً، ويحضر الملتقيات الثقافية، ويزور معارض الكتب.

وحريٌ الإشارة إلى أن منصور شخص اجتماعي الهوى، يحب التواصل مع الناس، ولا يميل للعزلة أو التقوقع على الذات، فهو منفتح في علاقاته الاجتماعية على الأجيال المختلفة، إذ له في كل منها معارف وصداقات. فإذا كان مظهره الخارجي الذي يبدو عليه يظهره كعجوز في عمر الشيخوخة والكهولة، إلا أن قلبه ينبض بروح الحياة، ويظهره كشاب في عمر الفتوة. فهو بمثابة الجسر الذي يربط بين الأجيال، وحلقة تواصل تجمع بينها، على الرغم من اختلاف الأعمار والنشأة والبيئات والأفكار والظروف، وهو ما يمكن أن يمنح الأجيال الأصغر فرصة التعرف على تجارب الأسبقين، والاكتساب من خبراتهم، والتعلم منها.

لقد ظللت خلال السنوات التي عرفته فيها أراه بنفس الهيئة والطريقة في اللبس، والبساطة في الهندام، فإذا كان كثيرون من جيله، ومن الجيل الذي قبله، أو الجيل الذي بعده، قد تأثروا بمظاهر التحديث التي طرأت على مجتمعاتنا، وأخدوا يميلون إلى تغيير أنماط ما اعتادت عليه مجتمعاتهم من عادات وتقاليد معهودة، ولجأوا إلى تغيير مظاهرهم الخارجية، وبدئوا في ارتداء البنطلونات والبدلات والملابس الأنيقة، فإن «منصور»، من خلال ما يظهر عليه من هندام، ظل محافظاً على زيّه التقليدي الذي إعتاد عليه، والذي عُرفت به منطقة القطيف منذ عهد طويل.

عاش الرجل حياة ثقافية ملئها الذكريات، وهذه السيرة الثقافية تستحق ليس فقط أن تروى، بل أن تسجل وتوثق، كي نتعرف على الزمن الذي عاش في ظله، ونعرف سيرة المكان الذي نشأ فيه، وأبرز المحطات الثقافية التي مر بها. فالتجربة الغنية التي عاشها يمكن أن تضيء وتكشف عن العوالم الكامنة في العتمة والبعيدة عن الصورة. فهو يمتلك ذاكرة قوية وخصبة، يمكن استفزازها وتنشيطها لتنهض وتنفض الغبار عنها، لتتمكن من استرجاع ما اختزنته من أحداث وقضايا وأشياء يمكن تسجيلها وتوثيقها، وبالتالي حفظها من الضياع والاندثار. وهو بالتأكيد قادر على رواية ذكرياته والتعبير عنها بصفاء ووضوح.

لعل السؤال الذي يتبادر إلى الذهن كيف يمكن «لمنصور» وأمثاله أن يسجلوا ذكرياتهم ويدونونها ويحفظونها ويروونها للأجيال، لتكون وثيقة تصف وتشرح مشاهداتهم والتحولات التي جرت، أو واكبوا حدوثها في مجتمعاتنا، خصوصاً وأنها كانت عرضة للتغير الدائم والمستمر، وأن الكثير منها حدث بعد اكتشاف النفط، وما صاحب اكتشافه من تحولات وتداعيات أدت إلى حدوث متغيرات بنيوية وأساسية فيها، وأثرت على حياة الناس وشؤونهم، وهو ما يستوجب تسجيلها ورصدها وحفظها كي لا يفقد الإنسان في هذا المكان روابط الود والانسجام مع الأشياء التي كوّنت جذور وملامح هويته؟

خلاصة القول هي أن أجيال اليوم يصعب عليها استيعاب ما حدث وطرأ على مجتمعاتنا من تحولات وتغيرات، أو إدراكها وفهمها، إذا لم تكن هذه المتغيرات مرصودة وموثقة ومروية، فهي بسبب حالة الصخب والتوتر والزحام والانشغالات اليومية بعيدة عن الاهتمام بملاحظة هذه المتغيرات التي تتراكم وبشكل تدريجي على توالي الأيام، حيث تُفقد وتندثر آثار وكنوز تعبر عن هوية المكان وشخصيته، والملامح المميزة له. فإذا لم يبادر هؤلاء بالكتابة عن أماكنهم وتاريخها، ويسهبوا في وصفها، وما تتميز به من مناخ وتضاريس وعادات وتقاليد وأسلوب حياة، فمن هو إذاً الجدير بالكتابة عنها؟