بين عامين

في الوقت الذي كان فيه الكثير من مدن العالم يستقبل العام الجديد باحتفالات صاخبة، وحفلات موسيقية، وعروض ضوئية، وإطلاق إشعاعات ليزرية، وألعاب نارية أضاءت سماوات المدن بألوان مضيئة زاهية بددت ظلام ليلها، كانت فيه مدن أخرى أيضاً تستقبله على وقع أصوات انفجارات القنابل والصواريخ والمدافع والأسلحة النارية.

فإذا كان هناك من لم ينم انتظاراً لحلول منتصف الليل، كي يشارك في استقبال رأس السنة الجديدة وبداية العام الجديد بفرح وحبور ومرح على وقع أصوات المفرقعات النارية المتعددة الألوان، والحفلات الموسيقية الصاخبة، فإن هناك آخرون لم يذوقوا طعم النوم بسبب أصوات انفجارات الأسلحة النارية، مستقبلين عامهم الجديد بخوف ورعب وجزع، فيما هم يختبؤون خلف جدران بيوتهم، أو هم يهيمون على وجوههم تائهون يبحثون عن الملجأ والمأوى راجين رحمة الله، وداعينه بأن يفرج عنهم مصائبهم، ويخفف عنهم آلامهم ومعاناتهم، في ظل قسوة الحروب والقتل والتشرد، والممارسات الوحشية التي تقوم بها جماعات العنف الإرهابية.

لم ينتهي العام 2014 إلا بمقتل الألوف من البشر، وارتكاب المجازر بحق الإنسانية، حيث عُدَّ هذا العام من الأعوام الأكثر عنفاً ودموية نتيجة استمرار النزاعات، وتنامي نفوذ ما سُمِّي بالتنظيمات الجهادية، وسيطرتها على مساحات واسعة من أراضي بعض الدول، حيث ذهب ضحية أعمالها العنفية والبربرية الكثير من البشر، في مجازر وحشية يندى لها الجبين. ففي اليمن لم يمر اليوم الأخير من عام 2014 بسلام وهدوء، إذ أبى انتحاري إلا أن يفجر نفسه وسط جموع من الأطفال والنساء ممن كانوا يحتفلون بعيد المولد النبوي في مركز ثقافي بأحد المدن، مما أدى إلى وقوع مجزرة وحشية راح ضحيتها العشرات من الأبرياء.

إننا مع دخول العام الجديد نرفع أكفنا مبتهلين إلى الله عز وجل أن يحفظ أمتنا من كل سوء، ويخلصها من البلايا التي تمر بها، والمِحن التي تتعرض لها، ونتضرع إلية سبحانه وتعالى أن يحل الأمن والسلام والاستقرار والازدهار في ربوع بلداننا، وفي ربوع العالم أجمع، ونسأله تعالى أن يكف عنا شر هؤلاء الوحوش الأشرار المجرمين ويجنبنا فتنهم، فهم مجردين من كل قيم الإنسانية والمبادئ الأخلاقية والدينية، ويعيثون فساداً في الأرض، قتلاً وترهيباً وتنكيلاً، مستهدفين كل بني الإنسان في جميع أرجاء المعمورة، من دون رادع، أو وازع من ضمير، ومن دون أدنى قدر من الرحمة والإنسانية.

لقد شهد العام المنصرم الكثير من المآسي والأحداث الدامية والمؤلمة، فمن منا لن يشاهد تلك الصور للآلف من الناس الذين كانوا يفرون من أماكن سكناهم في نزوح جماعي على أثر تعرضها لهجوم الوحوش الضارية، في مشهد مؤلم وقاسي تعتصر له القلوب. فكم كان مؤلما مشاهدة حرائر هذه الأمة يُشردن من البيوت، ويهمن على وجوههن مشياً على الأقدام في الصحاري والبرور، أو على سفوح الجبال، ويختبئن في كهوفها ووديانها خوفاً على أنفسهن، وهرباً من الوحوش البشرية المسعورة، نهّاشة الأجساد واللحوم.

كم نحن اليوم بحاجة إلى استنهاض عزائم وهمم كل أبناء الأمة، للوقوف بوجه هؤلاء الأشرار، العابثين في الأرض، والمفرقين لشمل الأمة. فهؤلاء يفعلون ما يفعلون بإسم الدين، زوراً وبهتاناً، والدين منهم براء. فقد بات لزاماً استعادة زمام المبادرة، والمساهمة بجد في عمليه البناء والتغيير، من خلال خلق منظومة فكريه وأخلاقية جديدة، تهذب النفس، وتضبط نزعاتها الشريرة، وترفع من قيمه الوعي والثقافة الخلاقة، وتُعلي من قيمة الإنسان كإنسان مهما كان انتمائه.

إننا نرفع أكفنا داعين الله سبحانه وتعالى أن يكون العام الجديد أفضل حالاً من العام الذي انصرم، وأن تتضافر فيه الجهود لمحاربة آفة الإرهاب الخبيثة، آملين بأن تتطهر أوطاننا من شرورها، كي نعيش بأمن وسلام في مدننا وبيوتنا وبين أهالينا، ونسأله تعالى أن يكشف هذه القمة عن هذه الأمة، ويغير سوء حالها إلى أحسن حال، ويصلح كل فاسد من أمور أبنائها، ويرشدهم إلى الطريق القويم. ونسأله جل وعلى أن تتوقف كل أشكال الحروب والفتن، ويحل الأمن والسلام في كل أرجاء المعمورة، وأن يفك أسر كل أسير في السجون والمعتقلات، ويرد كل غريب إلى أرضه ووطنه ومنطقته وأهلة وبيته، لا سيما هؤلاء الملايين من النازحين واللاجئين والمشردين والمفقودين، من نساء وأطفال ومُسنين، ممن تشتت بهم السبل، أو انقطعت أخبارهم. اللهم يا رب.