الديمقراطية التي لا تأتي (2)


واحد من إشكالاتنا المزمنة وأمراضنا الثقافية المستعصية ما نعاني منه من تعامل سطحي مع المصطلحات والمفاهيم، ولا سيما إذا كانت ذات منشأ غربي أو من خارج دائرة المجتمع الإسلامي. إذ غالبا ما نقوم بتصنيف تلك المصطلحات والمفاهيم على أنها أفكار مستوردة يُراد منها تغريب المجتمع وتمكين الإحلال الثقافي خدمة لأهداف إمبريالية استعمارية، وتحقيقا للهيمنة على الفكر والاقتصاد والسياسة. وكأنها لم تولد في الأصل استجابة لأزمات داخلية، وحلا لصراعات بينية دينية وطائفية وسياسية أتت على الأخضر واليابس في تلك الديار البعيدة.

التعامل السطحي هو عبارة عن متلازمة ثقافية تتكون من:

1-                 النظرة القشرية للمصطلح أو المفهوم، والتي تقف عند الاسم فقط دون أن تجهد نفسها في تفكيك المصطلح ومعرفة مكوناته.

2-                 هذه النظرة تستتبع الحكم القطعي الجازم غير القابل للمراجعة.

3-                 تعميم الحكم على كل ما يقع عليه اسم المصطلح من غير تفريق بين مسمى وآخر، برغم ما قد يظهر عند الفحص من اختلافات جوهرية بينها.

مصطلح (الديمقراطية) مثال بارز على ذلك. فقد نال نصيبا وافرا من التعامل السطحي بسبب ولادته في الربوع الغربية، مما أدى لرفضه والتعامل معه كذبيحة غير مذكاة، يحرم تناول لحمها. ومما لا شك فيه فإن الحكومات المستبدة عملت وتعمل بدأب وبمختلف الوسائل لترويج هذا الفهم المغلوط حتى لا تفقد شرعيتها، وكي تستمر في استنزاف الثروات دون رقيب أو حسيب. وأزعم أنها نجحت في عملها هذا مستثمرة حالة غياب الفطنة السياسية التي لا زالت مستشرية حتى اليوم.

بغض النظر عن تعريفات الديمقراطية ونُظُمها والفوارق بينها، فإن هناك مبادئ مشتركة وخطوطا عريضة تشكل السمات الرئيسية للديمقراطية. ومنها مبدأ سيادة الشعب واعتباره مصدر السلطات. فالوصول للسلطة يمر عبر إرادة الناس، وليس فوقها. ومنها مبدأ المساواة لكافة المواطنين في الحقوق والواجبات. وكذلك مبدأ سيادة القانون والفصل بين السلطات واستقلال القضاء.

الديمقراطية ببساطة هي حكم الشعب نفسه بنفسه مباشرة كما في الديمقراطية المباشرة، أو عبر نواب منتخَبين كما في الديمقراطية النيابية. في الأولى يقوم الشعب مباشرة بالتصويت على قرارات الحكومة؛  والمثال الأقرب في عصرنا الراهن لهذا النوع هو سويسرا. وفي الثانية يختار الشعب نوابا عنه يمثلون مصالحه ويصوتون على القرارات ويسنون التشريعات ويشرفون على أداء السلطة التنفيذية.

الديمقراطية هي حكم الأغلبية الذي يرعى حقوق الأقليات باعتبارهم مواطنين كاملي المواطنة. وهي آلية لإدارة السلطة جوهرها المشاركة العامة التي تتحقق من خلال صناديق الاقتراع ضمانا لرضا الجمهور. ويضمن النظام الديمقراطي حماية حقوق الإنسان الأساسية من طبيعية ومدنية، وعلى رأسها حرية التعبير وحرية المعتقد وحرية تشكيل التنظيمات السياسية وتأسيس منظمات المجتمع المدني، كما يضمن تكافؤ الفرص للجميع. الديمقراطية قد لا تكون النظام الأمثل، ولكنها كما يقول (تشرشل) أقل أنظمة الحكم سوءا.

إن الديمقراطية تقتضي في جوهرها أن لا تكون هي الشكل النهائي للحكم، إذ قد تبدع البشرية مستقبلا نظاما أفضل منها. وحتى ذلك الوقت فإن الديمقراطية كما دلت التجارب تظل الطريق الأسلم المتوفر حاليا لإدارة شؤون البلاد والعباد، حيث يتم تداول السلطة بشكل سلمي، يمثل إرادة الأكثرية، ويمنع من الانزلاق نحو الصراعات والحروب الداخلية.

أظن أن طريقنا نحو الديمقراطية لا يزال طويلا، لأننا في خطاباتنا السياسية وممارساتنا العملية أبعد ما نكون عن الديمقراطية. وخير شاهد على ذلك ما حدث ويحدث في الدول التي مر عليها ما سمي بالربيع العربي، فنجحت في تحويله إلى خريف من خلال السلوكيات غير الديمقراطية.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

شاعر وأديب