زهرة الريف

 

 

 

 

لم أمتلك لعبة كبقية الصغار، حياتنا " صعبة " كما يقول جدي، فلقمة العيش لا تأتي على طبق من حرير، وأنّ للسماء أن تمطر ذهباً؟! الكوخ العتيق هو الأقرب تسمية لبيتنا، آه لما يتكبده الرجال حيالنا، لقد ذهب جدي صباحاً وعاد محمولا ليعانق القبور، زهرة في لحده غرستها فسالت دموعي يسابقها  البكاء والألم تذكرت كلمته التي حُفرت في نفسي ولم تمحى: " الحياة صعبة يا بنيتي "، رفعت وجهي متنهدة والنسيم يجفف ما علق فيه من تراب القبر، انفجرت دموعي ثانية وصرخت لن اسمع "بنيتي" منه بعد هذا اليوم !

رغم كل الخير الذي يغطي سواحلنا اغلب الناس لا تولد لقمة العيش لهم إلا قيصرية، هوايتي التصوير لكني لا أملك كاميرا ولو تجولت في الأحياء بكاميرا وداد صديقتي لفضحت الإعلام الذي يصور الواقع منكوساً، العالم سيدرك ما تعانيه الشعوب، منازلنا من القرون الوسطى أتت، البعض لا يملك قوت يومه، والبعض يُعوزه ثمن الأجار، بعض البيوت لا تعيش كريمة إلا في اليوم الأول من الراتب، وتغادر السعادة مع غياب الشمس.
طالبة كنت أكره وقت الفسح؛ فلا مصروف لدي لأشتري به كما تفعل الأخريات، ملابسي تتصدق بها علينا بعض العوائل الغنية، نتراكض خلف الملابس التي يريدون التخلص منها، كم كنا سعداء بها؟!

رغم شظف العيش إلا أن السعادة تغمرنا، نضحك وننام كالطيور، تبخرت أيام الدراسة سريعا رغم قسوة الزمن، وبقت الذكريات شبحاً لذيذاً يتراقص في العيون، ولأول مرة تقف سيارة فارهة أمام منزلنا، تأملتها جيداً وحسبت أنها وصلت بطريق الخطأ، مفاجئتي كانت كبيرة حينما علمت أن صاحبها يريد أن يخطب يدي ..

 خالطني شعور لم أفصحه لأحد : من أنا حتى أتزوج بهذه الشخصية الثرية؟!، لم أكن أحلم بشاب كهذا، ولكن الأرزاق تسوقها الرياح ومرارة العيش تتغير في طرفة عين، دوام الحال من المحال، سعيدة أسرتي بهذا الفارس الجديد، لقد آن لهذه المآسي أن تهاجر، فالرحمة هطلت علينا بغزارة بعد طول جذب، لم تدوم فصول الخطوبة وسرعان ما تغيرت الأحوال، الكوخ الصغير بعناه وحل مكانه قصر منيف، إلا إن روعة الأنس افتقدتها، لم أتوقع أن أشاهد حياتي بهذا الذبول رغم الثراء الفاحش، ليلة زفافي كانت لأميرة من أميرات الملوك.

غادرت بهجة الاحتفالات الصاخبة وانقضى شهر العسل، وبدأت أستيقظ من الغيبوبة، حياة الأغنياء مليئة بالصخب لكنها خالية المذاق، أحن للذة القرص الجشب ولا طعم لأطباق البذخ، أفتقد الكوخ العزيز رغم بساطته، تمنيت أن يرجعه لنا الزمن، لم أعتد على حياة الجفاف التي تغزوني بشراهة، حياة بلاستيكية صرفة تخلو من الحب والعاطفة، المال كل ما فيها وحياة التسوق والرفاه تافهة، ما أجمل تلك العبارة التي أحتسيها بدفئ رغم المعاناة " الحياة صعبة " غابت عني لذتها وأضحت حياة الثراء تكتم أنفاسي، الموت يساورني والزخارف تقتلني، ما أقسى هذه الحياة على قلبي في هذا القصر الجامد والسجن المريع، سأموت في هذه الدوامة المخملية، فزهرة الريف لا تحتمل الصقيع، طلقني زوجي حينما أدرك حجم المعاناة، كم كنت سعيدة بورقة الطلاق هذه؟، وكان لي ما تمنيت، استرجعنا كوخنا العتيق فأخذت أقفز كالصبيان لاستجمع ما تبقى لي من لهو الصغر!