هل ينجح حراك الشباب في إصلاح الأمة(2)

 

استتباعاً للمقال السابق حول حراك الشباب في العالمين العربي والإسلامي، وصلنا إلى سؤال أساس، وهو عنوان مقالنا اليوم. السؤال كبير جداً، بل هو أكبر من أن يجيب عليه أحد ما.

 لكننا نجتهد بما نحيط به من علم ودراية من باب محاولة التحليل والتوقع، لا أكثر ولا أقل، لأن العوامل المؤثرة في كل حراك شبابي تختلف من بلد إلى أخر، ومن مجتمع إلى أخر.

 هناك العوامل الذاتية للحراك، والعوامل المحيطة بالحراك، والعوامل الخارجية. وسنحاول أن نوجز تلك العوامل كي لا نستغرق في الموضوع.

في البداية ينبغي التأكيد على العامل الرباني والغيبي للموضوع الذي لا يمكننا كإسلاميين تغافله، ففي أول آية من سورة البقرة حيث تتطرق لمواصفات المؤمنين، التي من أهمها الإيمان بالغيب، يقول الله سبحانه وتعالى: "ألم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون* أولئك على هُدى من ربهم وأولئك هم المفلحون" البقرة: 1-5 فبالعلم السياسي والمنطقي والعلمي لا يمكن قبول ما حصل خلال الفترة الأخيرة والتسليم به بعيداً عن الجنبة الغيبة لله جلّ وعلا. فما كان قبل أشهر قليلة، بالتحليل المنطقي والسياسي والاجتماعي مستحيلاً، أمسى اليوم واقعاً.

سقوط حاكم تونس زين العابدين بن علي في فترة وجيزة، سقوط حاكم مصر حسني مبارك، انقلاب الأوضاع في ليبيا واليمن وسوريا والبحرين...

 كل ذلك لم يكن متوقعاً حتى شهادة الشاب التونسي بو عزيزي. مطلب البحث في هذه النقطة، وما نريد التأكيد عليه هو وجود إرادة غيبية شاءت ومكنت وباركت للأمة حدوث ما حدث.

وعليه تبقى التوقعات مفتوحة على جميع الاحتمالات الموضوعية وغير الموضوعية، لأن علمها عند ربي في كتاب لا يظل ربي ولا يشقى، فقد ينجح حراك الشباب في محاولة إصلاح الأمة، وهو ما يتمناه المؤمنون، وقد لا ينجح لا سمح الله، وهو ما يرجوه الحاكمون .

أما بالمنطق السياسي والعلمي والموضوعي فحراك الشباب معرض للنجاح والفشل وفق العوامل التالية:

أولاً: العوامل الذاتية لحراك الشباب: الشباب قوة محركة بديناميكية عالية للحراك، ولكنها قوة غير كافية بمفردها. فلولا تفاعل عامة الشارع المصري وبكل شرائحه الاجتماعية ما نجح حراك الشباب المصري في إسقاط وتغيير النظام. وكلما ضعف تفاعل الشارع مع حراك الشباب أو جبن، أو تشبث بالاستسلام للواقع القائم، ضعف عندها الأمل في الإصلاح والتغيير. والعكس يفضي لعكسه، فكلما زاد زخم الشارع بالتضامن مع حراك الشباب بالشجاعة والإقدام، زادت فرص الأمل في نجاح حراك الشباب.

من جهة أخرى، لتعدد الهويات الفكرية والاجتماعية والدينية أثر كبير في نجاح أو فشل الحراك الشبابي، بينما وحدة الهوية لتركيبة الاجتماع السياسي للبلد الواحد تميل بكفة الميزان لنجاح الحراك الشبابي كما حدث في مصر، أما البحرين واليمن فهما من النوع الأول المتعدد الهويات. ويُخشى على الحراك الشبابي في سوريا لتعدد هويات المجتمع السوري أن يقود الأمور نحو المسار الليبي، لأن المجتمع السوري يتضمن فسيفساء فكرية واجتماعية متنوعة دينياً ومتعددة قومياً، علويون وسنة وشيعة ومسيحيون ويهود وأكراد وتركمان وبدو...

من جهة ثالثة، هناك ورقة الجيش ودوره في إنجاح أو إفشال حراك الشباب، فعندما يقف الجيش، أو القوات المسلحة، على خط الحياد بين حراك الشباب والنظام تكون النتيجة أقرب للنجاح كما حصل في تونس.

وعندما يقف الجيش على خط الحياد كمراقب للتدخل في اللحظات الحاسمة لصالح التغيير ينجح أيضاً حراك الشباب كما حصل في مصر. بينما التدخل المبكر لصالح النظام كما جرى ويجري في ليبيا وسوريا والبحرين، وبنسبة ما في اليمن، فإن نجاح حراك الشباب معرض للتعطيل في المرحلة الأولى، وربما يتعرض للفشل أيضاً في المرحلة اللاحقة. هنا تبتان قدرة الشباب على تنظيم أنفسهم بخطوات سريعة على التواصل مع ضباط القوات المسلحة لتحييدها أو ضمان عدم تدخلها لصالح النظام أو عدم قمع الشارع. ويبتان أيضاً مستوى ارتباط هذه القوات بالناس ومدى استقلاليتها عن النظام.

من جهة رابعة، هناك النظام الحاكم وسيطرته وقوة تأثيره والمكونات الاجتماعية المتمصلحة من بقائه. هذا العنصر من العوامل الذاتية المؤثرة في حراك الشباب ويُشكل أحد المعايير لنجاح أو فشل حراكهم. هذا العنصر هو ما أفضى إلى الوضع القائم في ليبيا. معمر القذافي لم يتعامل بطريقة زين العابدين بن علي في تونس مقابل حراك الشباب والشارع، ولم ينتهج مسار حسني مبارك في مصر، بل لم يتشبث بالحكم على طريقة علي عبد الله صالح في اليمن، إنما قام بطريقته الخاصة بالاستعانة بجيشه وكل نظامه وحزبه وعشيرته وكذلك بجلب المرتزقة لمواجهة حراك الشباب المطالبين بالإصلاح والتغيير. فطبيعة النظام الحاكم ومستوى ردة فعله على حراك الشباب ومستوى قدرته على المناورة هي من المؤشرات المهمة لحسم جدل فشل أو نجاح حراك الشباب لإصلاح الأمة.

ثانياً: العوامل المحيطة لحراك الشباب: الشباب عندما ينزلون إلى الشارع ويطالبون بالتغيير والإصلاح، لا يعني ذلك غياباً للتكتلات الداخلية المحيطة بهم والمتغلغلة في المجتمع، سواء التكتلات الدينية أو السياسية من الأحزاب الرسمية العلنية وغير الرسمية كالنخب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والدينية. ناهيك عن وجود رجال أعمال في كل بلد يشكلون قوة اقتصادية مؤثرة في ميزان الأعمال ومسار الحياة التجارية، وتأثير هؤلاء على حراك الشباب بالنجاح أو الفشل يعتمد على تحولهم أو عدم تحولهم إلى تكتل سياسي فاعل يساومون من خلاله على تحديد مستقبل البلاد، أو على مدى قدرة الشباب على التعامل معهم واحتواء حركتهم في صالح التغيير الإصلاحي ومدى استجابتهم لذلك.

لكل هؤلاء- السياسيون والأحزاب ورجال الأعمال والنخب-  تأثير على قطاعات اجتماعية واسعة سواء قبل سقوط النظام أو بعد سقوطه، وإن كانت نسبته مختلفة بين أنواع النخب وامتداداتها الاجتماعية، ناهيك عن بقايا النظام والتكتلات القريبة منه ومدى حظوتها في الشارع العام. في تونس اليوم خشية كبيرة عبر عنها المتابعون من الداخل والخارج على مستقبل التغيير الذي حدث بقيادة الشباب.

 تبقى الأسئلة قائمة وحائرة حول قابلية الثورة للسرقة أم لا حتى تتضح معالم الخريطة السياسية للتغيير. منشئ الحيرة هو غياب التوقع والتحليل حول قدرة كل طرف وغلبة أي من الأطراف الداخلية على جر التغيير نحو مسارات محددة في هذا الاتجاه أو ذاك.

مع الأخذ بالاعتبار وجود امتدادات لهذه المكونات مع جماعاتها في الخارج. على ضوء ذلك يصبح نجاح الحراك الشبابي مرتبطاً بحجم الدور الذي تلعبه وستلعبه تلك التكتلات والنخب في التغييرات المطروحة والإصلاح المنشود.

ثالثاً: العوامل الخارجية لحراك الشباب: يتحرك الشباب بهمة عالية، لكنهم قد لا يحيطون بما يُدار حولهم من محاولات لاستثمار حراكهم من قبل المعادلات الإقليمية والدولية المهتمة ببلادهم. لكل بلد نسقه الدبلوماسي والسياسي المحيط به خارج حدوده الدولية، ناهيك عن التمثيل الدبلوماسي والسياسي للدول والمنظمات الدولية المقيمة في البلاد من سفارات ومكاتب مختلفة التوجهات ولها امتداداتها مع الداخل.

بمعنى أخر هناك مصالح لبعض الدول والجماعات في البلاد، ويراد لهذه المصالح أن تستمر أو أن تنمو وتكبر، سواء كانت مصالح اقتصادية أو سياسية أو دينية ومذهبية. فالنسق الدبلوماسي والسياسي في البحرين أفضى لدخول درع الجزيرة، والسياق الدبلوماسي والسياسي لليبيا أفضى لتدخل الناتو وهيئة الأمم المتحدة، والمجال الدبلوماسي والسياسي لليمن أفضى لطرح المبادرة الخليجية لحل الأزمة فيها.

بالطبع ليس غائباً العامل الدولي وقراره عن تلك الساحات، بل هو حاضرٌ وبقوة. وعليه، يكون للعوامل الخارجية دور المرجح لكفة ميزان حراك الشباب نحو النجاح أو الفشل، ولكن، كما يبدو لنا، أن منطلق هذا العامل وقوته يتحدد من خلال قوة وضعف العاملين الأول والثاني (العوامل الذاتية والعوامل المحيطة لحراك الشباب). فحجم حراك الشباب المصري ومن قبله التونسي لم يعطيا للعامل الدولي فرصة للمناورة والتقدم على سبيل المثال.

الأمر المقطوع فيه، أن الأوضاع لن تعود كما كانت عليه قبل الأحداث والتطورات في البلدان التي مر بها قطار الثورات العربية، والتي يمر بها اليوم، أو التي سيمر بها غداً. هناك تغيير ما، وبحجم ما سيحدث. أما ما مدى منسوب الإصلاح الذي سيخلفه في الأمة؟ فهو متروك للتفاعل الكيميائي لتلك العوامل التي ذكرناها بحيث ينتج عنها مولوداً جديداً وهو ما ستكشف عنه الفترة القادمة.

على ضوء جل تلك العوامل وتفاعلاتها الكيميائية ينتج نجاح أو فشل حراك الشارع العربي، ومستوى النتائج سيعتمد على غلبة عامل منها على بقية العوامل، كما في تركيب وتعديل وتطوير المعادلات الكيميائية، فقد يغلب عاملان فيحدث النجاح أو الفشل. عندما غلب العامل الذاتي في تونس ومصر، لصالح الشباب وليس النظام، سقط النظام برمته.

وعندما غلب العامل الخارجي في البحرين، حتى لحظة كتابة هذه الصفحات، خمدت الثورة.

 وعندما غلب العامل الذاتي في سوريا، لصالح النظام، حتى اللحظة، لم تتقدم الثورة.

 وهكذا دواليك. بيد أن أمتنا بحاجة لفهم الشباب قبل كل شيء، لأنهم عماد اللحظة الراهنة في الأمة. وهذا هو مضمون مقالنا القادم.

كاتب وباحث