حراك الشباب العربي: هل يُصلح الأمة؟

 

   تساؤلات كثيرة برزت، مع ولادة ما بات يعرف بـ "ربيع الثورة العربية"، حول طبيعة وحجم ودور الشباب العربي فيها. تصب جميعها في مختبر واحد يبتغي محاولة قراءة وفهم، ليس أحداث الثورة هنا وهناك فقط، بل قراءة ما يصنعه شباب الأمة من تغيير، ومحاولة فهم منطلقات تفجر حالة الثورة عندهم وتفهم أفكارهم وسلوكهم وحقيقة مشاعرهم تجاه محيطهم ومجتمعاتهم، مع تحفظنا على إطلاق أسم "الثورة" على هذا الحراك الواسع.

   فقد كسر شباب الأمة تلك الصورة النمطية التي سادت العالم العربي والإسلامي خلال العقود الماضية حتى لحظة استشهاد الشاب التونسي بوعزيزي. تؤكد تلك الصورة أن مجتمعات العالم العربي لم ولن تتفاعل مع موجات التغيير والإصلاح التي سرت في عروق الشعوب والدول مثلما حدث مع سقوط جدار برلين الفاصل بين الألمانيتين، وتتابعت بسقوط الاتحاد السوفيتي وتحوله إلى دول امتدت من دول أوربا الشرقية حتى أقصى شرق أسيا. الملاحظة المهمة أيضاً أن تلك الموجات كان أساسها الشريحة الشبابية.

   كسر الحراك الشبابي في الأمة جدار الصمت الاجتماعي وحطم جدار الخوف السياسي فخرج من قمقمه معبراً، لا عن نفسه فقط، بل معبراً عن أجيال ذهبت لبارئها خلال العقود الماضية، وعن أجيال حاضرة تحمل هموم السابقين، وعن أجيال قادمة تتلمس طريقها نحو المستقبل. وفي حقيقة الأمر فإن هذا الحراك يمثل حلقة مكملة لموجات التغيير التي هبت على العالم خلال تسعينات القرن المنصرم وتتابعت هباته خلال العقد الأخير حتى وصلت لعالمنا العربي أخيراً.

   هذا الحراك الشبابي في العالم العربي والإسلامي إنما يعبر عن الإحباط العام تجاه الجمود السياسي وعدم التغيير والتطوير الاجتماعي. ويعبر كذلك عن انعدام الثقة في قدرة الأنظمة السائدة على تحقيق طموحات الشارع العربي. ويعبر عن رفض الشباب للركود التنموي في سائر الاتجاهات التنموية. ويعبر عن حالة اليأس من الحكومات القائمة في تلبية حاجات الناس اليومية والحياتية. ويعبر عن إيمان المجتمعات العربية بنفسها وإمكانياتها لصنع التغيير الذي يُطمئنها على حاضرها ومستقبل أبناءها.

   الشباب هم شريحة من الشرائح الاجتماعية المتعددة. انطلقوا فتبعتهم الشرائح الأخرى. ساحات التظاهر من تونس إلى اليمن والبحرين مروراً بمصر وليبيا وسوريا اكتظت بكل الشرائح، لكن شريحة الشباب كانت هي الوقود الدائم للتجمع والتفعيل والتفاعل. وقد أبدع الشباب في تحريك الشوارع بالشعارات السلمية وبتنظيم أنفسهم وطرح أفكارهم، لاسيما في سلوكهم بين الطرد والجذب تجاه المبادرات السياسية، سواء تلك المبادرات القادمة من أجل إنقاذ الحكومات القائمة، أو تلك المبادرات التي تستهدف معالجة الأزمة في هذا البلد أو ذاك.

   محاولات إصلاح الأمة لم تتوقف طوال تاريخها. ونعني هنا، الأمتين العربية والإسلامية. تخبو المحاولات وتبرز. تثور وتنام. تكمن وتظهر. قد تنبعث في مصر وتكمن في الشام. قد تخبو في اليمن وتبرز في العراق. وهكذا دواليك. لم تتوقف تلك المحاولات قط، لأن طموحات الإصلاح كانت دائماً حية في ضمائر المصلحين والمبادرين والمبدعين والمفكرين والسياسيين ومن حملوا هموم الشأن العام.

   محاولات إصلاح الأمة تنوعت في صورها وأشكالها وأطرها ودرجاتها. الانقلابات العسكرية هي وجه من تلك الوجوه المريدة للإصلاح أو التغيير. حركة الإمام محمد عبده في مصر. حركة الشيخ جمال الدين الأفغاني. الأحزاب والحركات الإسلامية واليسارية. حركات التحرر في البلاد العربية والإسلامية. ثورات الاستقلال من الاستعمار. حتى التكتلات الإقليمية كدول عدم الانحياز ومحور بغداد أو غيرهما، جميعها ينشد الإصلاح والتغيير وإن اختلفنا أو اتفقنا معها في المبدأ أو الأسلوب. بالتالي فإن تعدد صور محاولات الإصلاح هو مؤشر على استمرار مساعي خط الإصلاح في الأمة وعدم توقفها.

   جميع جوانب وزوايا الحراك المتنوع تصب في بوتقة محاولات التغيير والإصلاح، سواء اتخذ الحراك في نشاطه البعد الثقافي والفني كالمسرح والكتاب والإعلام، أو اتخذ في نشاطه البعد الاجتماعي والإنساني كالجمعيات الخيرية والجمعيات المهنية والاتحادات النقابية المتخصصة، أو اتخذ الحراك في نشاطه البعد الديني والفكري كالخطابة والإرشاد والتوجيه وحملات الحج والفعاليات الرمضانية، أو اتخذ نشاطه في البعد السياسي كتشكيل الأحزاب الموالية والمعارضة للتطوير والتنمية والمساواة وإقامة العدالة ومحاربة الفساد.
   لذا فإن تلك المحاولات الإصلاحية، بكل أشكالها وتنوعها وجوانبها، هي تعبر عن طموحات أصحابها وقناعاتهم في عملية الإصلاح وطرقها، وبالتالي فإن طموحات التغيير والإصلاح لم تتوقف، ولا نظنها تتوقف. في كل جيل، وفي كل مجتمع، هناك من يحمل راية التغيير والإصلاح، فيعبر عنها بمحاولة إصلاح هنا أو محاولة إصلاح هناك، إصلاح ثقافي أو إصلاح سياسي، إصلاح اقتصادي أو إصلاح ديني، إصلاح فكري أو إصلاح إداري، جميعها تعبر عن طموحات التغيير والإصلاح مهما تنوعت وتعددت.

   من هنا فإن حراك الشباب العربي هو، من وجه أو أخر، امتداد لتلك المحاولات الإصلاحية في الأمة، ولكن بوجه جديد وطبيعة جديدة وديناميكية جديدة، بغض النظر عن هوية هذا الحراك ومبتغياته ومنطلقاته. ومن ثم فهو امتداد لطموحات الإصلاح في الأمة. لا يمكن تناول حراك الشباب العربي اليوم منفصلاً عن الحراكات السابقة، فشباب اليوم هم أبناء لجيل أباء اليوم، وهم أحفاد للأجيال السابقة، لا شك أنهم يحملون البذور الايجابية والسلبية من أبائهم وأجدادهم، لكنهم عبروا عن طموحاتهم بما يسمى اليوم بـ "ربيع الثورات العربية" من المحيط إلى الخليج.

   يحمل شباب اليوم راية الإصلاح لأنهم يرون ويلمسون، كبقية الشرائح الاجتماعية، ما يحيط بهم من تردي في الأوضاع الاقتصادية كالفساد والتلاعب بثروات الأمة وارتفاع معدلات البطالة وضعف البنية التحتية للتنمية. وتردي في الأوضاع السياسية كتشتت الأمة وتفرقها وحاكمية الدكتاتوريات بالظلم والجور وبقاء فلسطين تحت الاحتلال الإسرائيلي وعودة الاستعمار في بلدان الأمة برداء جديد. وتردي في الأوضاع الإنسانية كضعف الخدمات الطبية والتعليمية والسكنية. وغيرها من ترديات اجتماعية وثقافية...كل ذلك دفعهم للبحث عن وسائل وأدوات تساعدهم على إصلاح ما أفسده الدهر في أمتهم.

   حراك الشباب كعملية إصلاحية في الأمة يؤكد أحد أمرين: إما أن الأمة ملت الجمود في أوضاعها المختلفة فقررت كسر عجلة الروتين التي تعيشها بالبحث عن مسارات للتغيير، أو أن الأمة تعيش حالة من الفساد الذي يحتاج إلى معالجة بالضد عبر عملية جراحية للإصلاح. والأقرب، في قناعتنا، أن حراك الشباب يعبر عن الحالتين: رفض للجمود السائد في مناحي حياة الأمة في أوضاعها السياسية والاقتصادية الاجتماعية، وفي الوقت ذاته هو عملية قيصرية قاسية يراد منها الإصلاح في الأمة.

    اندفاع الشباب في حراكهم بهذا الحماس الذي فاق توقعات المحللين وتجاوز تنبأت الإستراتيجيين المستشرفين للمستقبل، قاد الأمة، في مصر على سبيل المثال، نحو ردة فعل تطالب بمحاكمة أقطاب النظام السابق، لأن الأمة تحملهم مسؤولية الفساد الذي طال بنتائجه كل أسرة على جميع المستويات الحياتية. من هنا، كما يعتقد شباب الثورة في مصر، يبدأ الإصلاح وينطلق قطار التغيير، لأن الاعتراف بالفساد ووجود المفسدين يقود للإصلاح المنشود... ولكن هل ينجح حراك الشباب في إصلاح الأمة؟ هذا ما سنتناوله في مقال لاحق.

كاتب وباحث