"على ضفاف أربعينية الحسين ع"

الشيعة في الخليج ( 2 )

   تزدحم الطرق الرئيسية المفضية إلى كربلاء بمئات من الألاف البشرية التي اعتمدت المشي وسيلة للوصول إلى كربلاء، ويُطلق عليهم "المشاية". وقد أبدع العراقيون خلال السنوات الثمان الماضية في التشجيع على استمرار وتطور مسارات "المشاية" كالتي بين النجف وكربلاء وبين بغداد وكربلاء... ولا زال الخليجيون الشيعة يستمدون من تلك الإبداعات صوراً انعكست بنقل ممارسة الشعائر الحسينية في الخليج من حالة تقليدية إلى حالة جديدة لم يعهدوها في مجتمعاتهم، بغض النظر عن اتفاق شيعة الخليج أنفسهم عليها قبولاً أو رفضاً، لكنه هو الواقع القائم والقادم.
   مثالنا الواضح هنا هو انتشار فكرة "المضافات" في قرى ومدن الشيعة في الخليج. "المضافات" لمن لا يعرفها هي مقرات مؤقتة تقام خلال أيام عاشوراء من كل سنة هجرية، وتقام أيضاً في أربعينية الحسين ع في العشرين من صفر. تقدم المضافات خدمات متنوعة، وقد يختص مضافٌ بواحدة منها أو أكثر.  فعلى مسافة الـ80 كيلو متر، وهي المسافة الواصلة بين مدينتي النجف الأشرف وكربلاء، تقدم تلك الخدمات "للمشاة". منها: الطعام والشراب بأنواعه المختلفة للوجبات الرئيسية كالإفطار صباحاً والغداء ظهراً والعشاء ليلاً، والوجبات الخفيفة كالعصيرات والماء والشاي والفواكه والخضروات  والكعك العراقي، أماكن للصلاة، أماكن للقراءة الحسينية، مكرفونات لمن أراد أن يلقي لطمية أو قصيدة أو نعياً حسينياً، مقاعد للجلوس والإسترخاء وتدليك الأقدام، خيام للمبيت ليلاً أو للنوم نهاراً، مقرات طبية للإسعافات الأولية، سيارات إسعاف للحالات الطارئة... كل ذلك مصحوباً بأجهزة التسجيل التي تصدح باللطميات العزائية بأصوات أشهر الرواديد من العراق والخليج، من البحرين والكويت والسعودية والعراق... هذه صورة لواقع قائم ممتد لتقديم الخدمات لمسافة 80 كيلو متر دون توقف ودون مقابل على مدار الساعة لفترة تتراوح بين 14-15 يوم. وتوجد مضافات يقيمها أهل الخليج من الكويت والبحرين والسعودية كمضاف البقيع لأهل القطيف والأحساء والمدينة.
   عملية انتقال، أو بالأحرى تبادل انتقال التجارب بين الشيعة في دول الخليج، أو من وإلى دول الخليج والعراق، أصبحت اليوم سريعة جداً عبر ما تبثه الفضائيات الشيعية التي تتحول إلى "قنوات أربعينية الحسين"، فقد انتقل مثلاً طور العزاء المسمى بالبحراني إلى بعض مناطق الخليج والعراق. أما مع وجود أغلبية شيعية في العراق من جهة، ووجود مراقد المعصومين ع فيها من جهة أخرى، ووجود صحوة شيعية عراقية فكرية وسياسية وعقائدية من جهة ثالثة، فإن زخم تلك الصحوة أوجدت لها صدى فاعلاً ومتفاعلاً في الساحات الشيعية الخليجية دون استثناء...
   لا يرتبط شيعة الخليج بالعراق من حيث الفكر والمذهب والحوزات العلمية ومراجع التقليد فقط، بل هناك روابط ضاربة في أعماق التاريخ كرابطة الدم القائمة على العلاقات العشائرية والعائلية... فعوائل كثيرة في العراق أصولها قادمة من الأحساء والقطيف والبحرين وعمان، والعكس صحيح أيضاً ومُحرز، بحيث نجد عوائل خليجية أصولها قادمة من مناطق العراق كالبصرة وكربلاء والنجف. ويمكن عرض أسماء لعوائل كثيرة ينطبق عليها هذا الحال مثل: الشخص، النمر، آل إبراهيم،  الشعلة، العتيبي، العلي، الناصر، الفرج، القطان، الحربي، الصالح، الحمود، الوزان، السادة، الحسين، الصايغ، الجاسم، المؤمن، البيات، البحراني، بو خمسين، الشافعي، الحداد، الصراف، الصفار... وهي حالة حقيقية لا مجرد تشابه في السماء كما يتصور البعض. ولمن أراد التزود فعليه مراجعة كتب الأنساب والقبائل...واليوم تتوطد تلك الامتدادات العائلية بشكل مستمر من خلال التصاهر بين شيعة الخليج وشيعة العراق. هي عملية لم تتوقف منذ القدم حتى يومنا الحاضر وأن تعرضت الحالة لحالات بين المد والجزر متأثرةً بالأوضاع السياسية والاقتصادية والتحولات الاجتماعية في الجانبين. المحصلة النهائية هي أن قسماً لا بأس به من عوائل الشيعة مرتبطة ببعضها من الأحساء والقطيف مروراً بقطر والإمارات والبحرين والكويت ووصولاً إلى العراق...
   يقول مثقف سعودي يزور العراق للمشاركة في إحياء ذكر الأربعين: " في كل زيارة لي للعراق ألتقي بأقاربنا الموجودين في بغداد والبصرة والنجف، وهو أمر نجد فيه تجديداً لروابطنا الأسرية". ويقول مثقف كويتي: " لنا في النجف، بالتحديد في مقبرة الغري، مقبرة خاصة بعائلتنا المنتشرة في الكويت والأحساء والعراق، ولا زلنا ندفن موتانا من الكويت فيها، بخاصة الذين يوصون بذلك".
لذا يصبح من الطبيعي جداً أن يتبادل شيعة الخليج الانتقال العفوي للتجارب والعادات والتقاليد والثقافات المشتركة، ناهيك عن الانتقال العفوي لصور المناشط الدينية والطقوس الحسينية المتعلقة بمذهبهم المشترك الذي يمثل رابطاً عقدياً قائماً منذ أربعة عشر قرناً حتى وقتنا الحاضر.
كاتب وباحث