سيرتها قبل سفرتها

كان على نسائنا أن ينشغلن بسيرتها قبل سفرتها، وأن يتخذنها رمزا للمرأة التي يدور سلوكها مدار القيم والمبادئ، وأن يقدمنها مثلا وقدوة للنساء والرجال على السواء، تماما كما صارت مريم مثلا للذين آمنوا.

فاطمة بنت حزام الكلابية ( ت 64 هـ ) عنوان للمرأة المسلمة التي تستطيع أن تقدم للعالم اليوم نموذجا يعلي من إنسانية المرأة وروحها وقلبها وعقلها. يبدو من خلال ما ذكر التاريخ الذي كان شحيحا كعادته في حفظ سير أهل العطاء أن عطر كمالها قد بلغت رائحته الفواحة أنوف الخبراء التي لا تخطئ الروائح الزكية، ولذا اختارها الخبير عقيل بن أبي طالب لأخيه الذي استشاره رغم خبرة المستشير الشخصية التي تفوق خبرة المستشار، ولكن لعله يريد بهذه الاستشارة أن يؤكد قيمتين في آن واحد: قيمة الشورى في صغير الأمور وكبيرها، وقيمة احترام أهل الخبرة والاختصاص وإعطائهم مكانتهم اللائقة بهم.

اختارها عقيل لأخيه أمير المؤمنين   لتكون شريكة حياته. كان عمرها آنذاك تسعة عشر عاما على الأرجح، أي أنها كانت في عمر ابنته زينب وأصغر من ولديه الحسنين . بدأت حياتها بالتضحية ونكران الذات، فقد طلبت من أمير المؤمنين أن لا يناديها باسمها ( فاطمة ) مراعاة لشعور أبنائه الذين فقدوا أمهم فاطمة قبل أكثر من 10 سنوات تقريبا، وهكذا صار يناديها الجميع بكنيتها ( أم البنين ).

من المناسب أن تقف النساء طويلا عند هذا الدرس العظيم، حيث أن كثيرا من حالات الزواج المشابهة في عصرنا الراهن تتسبب في معاناة كبيرة للزوج وللأولاد الذين فقدوا أمهم لوفاة أو طلاق، ويتعرض هؤلاء الأولاد للمعاملة القاسية والإقصائية من قبل زوجة أبيهم لتكون هي وأولادها فقط أصحاب الحظوة المتربعين على عرش قلب الأب الممزق بين أولاده وأولاده.

بالطبع لا أريد هنا أن أعفي الأب من مسؤوليته الشرعية والأخلاقية، كما لا أريد أن أعمم هذه الصورة، ولكنها في الواقع المعاش تحتل مساحة كبيرة.

المشهد الآخر الذي ينبغي التوقف عنده طويلا هو التضحية العظيمة التي قدمها أبناؤها الأربعة في كربلاء، العباس وعبد الله وجعفر وعثمان كلهم كانوا إلى جنب أخيهم غير الشقيق ( الإمام الحسين ) يدافعون عنه ويذوبون حبا فيه، حتى قضوا كلهم شهداء بين يديه.

هذا المشهد الأسطوري في العلاقة الشقيقة بين الإخوة غير الأشقاء ما كان ليكون لولا التربية والتغذية المبدئية السليمة التي نشأ عليها هؤلاء على يدي هذه المرأة الجليلة التي استطاعت أن تبلغ بمشاعر أبنائها حد الفناء في أخيهم .

مشهد ثالث يؤكد عمق إيمان هذه المرأة ورجاحة عقلها ونكرانها لذاتها، ما ذكره التاريخ من أن بشر بن حذلم عندما قدم المدينة مع الركب العائد من كربلاء، كان كلما نعى إليها واحدا من أولادها قالت: أخبرني عن أبي عبد الله .. أولادي ومن تحت الخضراء كلهم فداء لأبي عبد الله الحسين.

أي امرأة بل أي رجل يستطيع أن يفعل مثلها؟!

مشهد رابع يصلح درسا في الإصرار على إعلان المظلومية أمام الرأي العام، وإبقاء القضية حية دائما، إذ يذكر التاريخ أنها كانت تخرج إلى البقيع في كل يوم ترثي أبناءها الأربعة، فيجتمع لسماع رثائها أهل المدينة، وفيهم مروان بن الحكم فيبكون لشجي الندبة.

وإمعانا في ترسيخ المظلومية، فقد كانت تحمل حفيدها عبيد الله بن ولدها العباس معها، وترثي أباه بأبياتها الشجية قائلة:

يا من رأى العبّاس كرّ على جماهير النقد            و وراه من أبناء حــيدرَ كلّ ليث ذي لبــد

اُنبئتُ أنّ ابني اُصــيب برأسه مقطوع يد            ويلي على شبلي أمال برأسه ضرب العمد

لو كان ســـــيفك في يديك لما دنا منه أحد

شاعر وأديب