نحن وقراءة التاريخ

لماذا نعود للتاريخ؟ ولماذا ندرس شخوصه وأحداثه؟ ألا يُعدّ ذلك هدرا للوقت وتضييعا للجهود؟! ألا ينطبق على الماضين وتاريخهم قوله تعالى: «تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ»؟! وهل في هذه الآية نهي عن البحث التاريخي؟ أم إن مفادها مختلف تماما؟!

إذا عدنا لآيات الكتاب العزيز سنراها عند أدنى تأمل مشحونة بالدعوة الحثيثة لقراءة تجارب الماضين واستخلاص السنن والعبر والدروس منها. فقراءة التاريخ في المفهوم القرآني ليس للتسلية وقتل الفراغ، وإنما هي عمل جاد يهدف إلى استيعاب واستلهام الخبرات البشرية المتراكمة بالتركيز على المآلات والمصائر التي انتهت إليها كل تجربة، فالتجارب بخواتيمها. ولذا يركز الخطاب القرآني على النظر في العاقبة عند دراسة التاريخ دراسة جادة. يقول تعالى:

«قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ»

«قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ»

«قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ».

ففي هذه الآيات حث على السير في الأرض سير نظر واستدلال، ولذا أشار في آية أخرى إلى الأدوات المطلوبة لتحقيق ذلك في قوله تعالى: «فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى‏ عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ «45» أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ». فالمسألة لا تتعلق بمشاهدة الآثار بالعين الباصرة، بل لا بد من إعمال العقل في اكتشاف ما وراء ذلك، أو الأذن الواعية التي تستطيع انتخاب من تسمع وما تسمع. أما وجه الترديد في الآية بين القلب والأذن من غير تعرض للبصر، فذلك كما يقول صاحب الميزان «لأن الترديد في الحقيقة بين الاستقلال في التعقل وتمييز الخير من الشر والنافع من الضار وبين الاتباع لمن يجوز اتباعه، وهذان شأن القلب والأذن».

لا شك أن قراءة التاريخ قراءة موضوعية تضيف للإنسان أعمارا فوق عمره، وتجعله أكثر بصيرة بحركة الإنسان وإنجازاته وإخفاقاته، وتوفر عليه الكثير، وتُنضج رشده في وقت قصير. وقد أشار الإمام علي إلى هذا الأمر في وصيته الخالدة لابنه الحسن إذ يقول: أَيْ بُنَيَّ إِنِّي وإِنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي، فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ وفَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ، وسِرْتُ فِي آثَارِهِمْ حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ،  بَلْ كَأَنِّي بِمَا انْتَهَى إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذَلِكَ مِنْ كَدَرِه ونَفْعَه مِنْ ضَرَرِه.

وعودا على آية البداية «تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ» فإن هذه الآية تشير إلى مسؤولية كل أمة عن أعمالها، وأن التالين لا يتحملون مسؤولية أعمال الماضين. وهذه نقطة جديرة بالحضور عند كل قارئ للتاريخ، حتى لا يكون التاريخ عبئا على الأجيال اللاحقة عوضا عن أن يكون جسرا للعبور إلى ضفة أخرى أكثر التصاقا بالمستقبل.

شاعر وأديب