الإدارةُ بالمشاركةِ مجرد شعار... أم واقعُ يُمارس

لا تزال بعض المؤسسات كما يبدو من ظاهر ممارساتها، تسير علي النهج والمنهج الإداري القديم، رغم الكم الهائل من الكتب والمجلات والندوات والمؤتمرات الإدارية التي تنادي بأهمية التطوير والتحديث، بل ورغم وفرة النظريات المعاصرة، والمفاهيم الإدارية المتقدمة كالإدارة بالأهداف، والإدارة بالتفويض، والإدارة بالوقت والإدارة بالإداء، والإدارة بالتغيير، وإدارة الجودة الشاملة، والرشيقة، والإدارة بالمشاركة وغيرها..، وكأن الزمن لم يتغّير أو أن الفكر الإداري لم يأتِ بجديد يستحق التوقف والمراجعة، فالأوامر لا تزال تصدر من الأعلى، وتنتظر من الأسفل الطاعة والتنفيذ دون نقاش أو مشاركة، بل إن كثيراً من هذه المؤسسات لا تزال تُدار بذات النظرة الفردية التسلطية التي ترى في الرأي الآخر خطراً، وفي الاستقلالية خروجاً عن الطاعة فتُقصي المبدعين وتكافئ الخانعين أو المتملقين، بحجة الانضباط والالتزام، أو الحفاظ على الهيبة الإدارية، أو تجنب الفوضى والمساءلة.

ولذا فإن الإشكال اليوم كما اتصوّر لم يعد محصوراً في الوسائل أو الهياكل أو الأنظمة وفقط، وإن كانت هذه الجوانب لا تخلو من عيوب وسلبيات، بل أن المشكلة الحقيقية تكمن في الذهنيات التي تتولى إدارة كل ذلك فتُصّر على قيادة الحاضر بأدوات الماضي، وتُعالج مشكلات العصر بوصفات قديمة، وتُدير تعقيدات اليوم بمنطق البارحة، ولهذا فإن التساؤل الجوهري الذي ينبغي أن يُطرح في كل مؤسسة وعلى لسان كل مدير أو قائد، أو صاحب منصب إداري هو:

هل ُنمارس فعلا الإدارة بالمشاركة، أم نرفع شعارها فقط في أديباتنا؟

هل نُشرك موظفينا في التفكير والتخطيط والتنظيم، أم نُحمّلهم فقط نتائج قرارات لم يكونوا جزءا منها؟

هل نراهم شركاء حقيقيين في الرؤية والرسالة أم مجرّد أدوات لتنفيذ ما يُملى عليهم؟

وماذا لو آمنا حقاً بأن الأفكار العظيمة لا تولد من القمة فقط، بل تتشكل في التفاصيل، وفي الميدان وفي التجارب الصامتة للعاملين؟.

أسئلة تكشف الفارق بين من يؤمن بثقافة المشاركة ويجعلها ممارسة يومية، وبين من يكتفي بترديد شعاراتها في الخطط والتقارير دون أن تمتد جذورها إلى الواقع الفعلي.

صحيح أن الجامعات العربية وحتى الأجنبية تخرّج أعداداً كبيرة من حاملي شهادات البكالوريوس والماجستير والدكتوراه، في إدارة الأعمال سنويا، ويُدرّس في مناهجهم الأكاديمية قيمة وفضيلة ”الإدارة بالمشاركة“ والعمل الجماعي، واهمية فرق العمل بكل تفاصيلها، وصحيح كذلك أن هناك العديد من الجهود التي تُبدل لتطوير وتحسين القيادات المستقبلية في هذه المجالات، ولكن النتيجة المرئية والواضحة والتي لا يختلف عليها أحد أن معظم المنتمين إلى الحقل الإداري أو بالأحرى أصحاب المناصب القيادية في العالم العربي لا يطبقون فعلياً ما تعلموه عن ”الإدارة بالمشاركة“ في أعمالهم أو مؤسساتهم أو شركاتهم، رغم إجماعهم النظري على أهميتها. وكثرة ترديدهم لشعاراتها في الخطب والخطط والتقارير.

وهنا تبرز المفارقة: فبينما تظل المشاركة عندنا حبيسة الأقوال، اتجهت الولايات المتحدة بعد أن قرعت اليابان أبوابها بالمنافسة في عقر دارها خلال الطفرة الصناعية والتكنولوجية إلى مراجعة أسسها الإدارية بعمق فوجدت أن ”المعجزة اليابانية“ لم تكن صدفة، بل كانت نتيجة لتبنّي الإدارة بالمشاركة كنهج، ومنهج مؤسسي يقوم على الجماعية والإجماع، وهي القيم التي شكلت جوهر الإدارة اليابانية

وهكذا، وللأسف الشديد لا تزال مؤسساتنا في كثير من الأحيان تتعامل مع ”المشاركة“ كزينه شكلية وكشعار يُرفع وقت الحاجة، ولا تتعامل معها كمنهج يُمارس في الواقع العملي، بينما أثبت التاريخ، أن الأمم لا تتقدم إلا حين تُترجم الشعارات أو القيم المعلنة إلى ممارسات وسلوكيات يومية، وأن المؤسسات تُدار بعقلية الفريق الواحد لا بعقلية الفرد المتسلّط. ومما يدلل على صدق هذه الحقيقة، ما حدث في جمهورية مصر العربية عندما صدر مرسوم جمهوري بتنفيذ الإدارة بالأهداف والتي تُمثل في جوهرها شكلاً من أشكال الإدارة بالمشاركة، غير أن التجربة فشلت، لا بسبب ضعف الفكرة، أو ضعف النظرية بل لافتقار القناعة لدى كثير من المديرين الذين رأوا في مشاركة موظفيهم في وضع الأهداف مساساً بمكانتهم وتهديداً لسلطتهم، فرفضوا مبدأ الجلوس مع مرؤوسيهم أو التابعين لهم، معتبرين أن التفكير، والتخطيط، والتنظيم، والتوجيه، والسيطرة، من اختصاصهم وحدهم، وأن دور الآخرين لا يتجاوز التنفيذ، وهو مشهد إداري يعكس بوضوح مدى المفارقة المؤلمة بين تطور الأدوات أو المفاهيم، وتخلف العقول التي تديرها.

مفهوم الإدارة بالمشاركة

مع بزوغ ”اقتصاديات المعرفة“ وهو مصطلح يُشير إلى نظام اقتصادي يعتمد في نموه وإنتاجيته على توليد المعرفة ونشرها واستخدامها بفعالية بدلا من الاعتماد التقليدي على الموارد الطبيعية أو العمل اليدوي، وهو ما إستشرفه العالم الإداري بيتر دركر قبل ما يزيد على عقدين بظهور طبقة ”عمال المعرفة“ «وهم الأفراد الذين لا يقتصر دورهم على التنفيذ للمهام الروتينية، وانما يعتمد على التفكير، والتحليل واستخدام المعلومات بدلا من التركيز على الجهد البدني أو الحرفي» ابتدأ المزج ما بين الفكر والعمل، إذ لم يعد مقبولا ً أن يُحتكر التفكير والتخطيط والتوجيه داخل المكاتب العليا للمديرين فقط بينما يُترك التنفيذ للموظفين أو العمال في الميدان.

ففي السابق، كانت ”نظرية الإدارة العلمية“ التي طوّرها ”فريدريك تايلور“ تقوم على مبدأ الفصل التام بين من يُفكر «الإدارة» وبين من يُنفذ «العمال» وذلك بهدف تعظيم الكفاءة والتخصص، إلا أن هذه النظرية ألم تعد اليوم صالحة في بيئة العمل المعرفي الحديث التي تقوم على دمج التفكير بالتنفيذ، وتُقدّر اسهامات العاملين بصفتهم شركاء في التفكير وصُنّاعاً للمعرفة.

ومن هنا برزت أهمية مفهوم الإدارة بالمشاركة والتي تعني: إشراك العاملين في صنع القرار، وفي التخطيط والتنفيذ والتقييم، لا باعتبارهم أدوات تنفيذ، وأنماء شركاء في الرؤية والمسؤولية، فمثلا في الشركة التقليدية يُطلب من الموظف تنفيذ الخطة التسويقية التي تم إعدادها مسبقاً من قبل الإدارة دون أن يُسأل عن رأيه أو أن يُستفاد من معرفته ومعلوماته وخبرته وتجاربه الميدانية، أما في الشركة التي تعتمد ”الإدارة بالمشاركة“ فإن الموظف يُدعى للمساهمة في بناء تلك الخطة، وتُؤخذ أفكاره واقتراحاته بعين الاعتبار، مما يُنتج خطة أكثر واقعية وفاعلية لأنه شارك في صياغتها وسيكون أكثر التزاماً بتحقيق أهدافها.

وباختصار، فإن ”الإدارة بالمشاركة“ هي الترجمة العملية للفكر الإداري الحديث الذي أفرزته نظرية اقتصاديات المعرفة، حيث لا يتحقق النجاح إلا عندما يُستثمر عقل الإنسان كما تُستثمر مهاراته.

الفرق بين الإدارة بالمشاركة والإدارة بالأهداف

الإدارة بالأهداف: تعني أن هناك أهدافاً واضحة يجب تحقيقها، وهذه الأهداف يتُفق عليها بين المدير والموظف ليعملوا معا على الوصول إليها، وهي طريقة مفيدة لأنها تجعل الجهود مركزة وتُسهل قياس الأداء، وتحفّز على الإنجاز، والمساءلة الذاتية، ولكن المشكلة أن كثيرُ من المؤسسات تضع الأهداف دون إشراك الموظفين، ودون مراعاة لواقعهم، وظروف العمل ومتطلباته، فتصبح الأهداف مفروضة ولا علاقة للموظف بها مما يُسبب ضعف الالتزام، وتراجع الحماس، وانخفاض الإنتاجية، مثل تنفيذ المهام بشكل آلي دون إبداع أو ابتكار، أو ينشغل الموظف بأولويات فردية لا علاقة لها بالأهداف المؤسسية.

أما الإدارة بالمشاركة: فهي تعني إشراك الموظف في اتخاذ القرارات، والاستماع إلى رأيه، ووجهة نظره في التخطيط والتنفيذ، وهي طريقة تخلق بيئة عمل إيجابية بل وتزيد من حالة الولاء والانتماء لأن الموظف يشعر بأنه شريك حقيقي في عملية التخطيط والتنفيذ لا مجرد رقم في العملية الإدارية، ولكن التحدي الأكبران كثيرا من الإدارات تخاف من المشاركة الحقيقية لأنها تعتقد أن الاستماع إلى الموظف يُضعف سلطتها، أو أن الموظف لا يملك نفس مستوى الفهم أو الرؤية أو القدرة على اتخاذ القرار مثل الإدارة أو القيادة وبالتالي لا يستحق أن يُستشار أو يُشارك في القرارات المهمة، وهو اعتقاد يعكس العقلية التسلطية القديمة التي تفترض أن التفكير حكرُ على القادة والتنفيذيين فقط، بينما الحقيقة هي أن الموظف خاصة إذا كان قريباً من العمليات اليومية، يملك تفاصيل وملاحظات وتجارب عملية قد لا تصل إلى طاولة المديرين، وتمثل كنزاً معرفياً يمكن أن يسهم في تحسين الأداء، واتخاذ القرارات الأكثر واقعية وفعالية، لو أُتيحت له فرصة التعبير والمشاركة بصدق.

أسباب تردد المؤسسات في تطبيق الإدارة بالمشاركة

إذا افترضنا أن معظم المؤسسات العربية تعترف وتقر نظرياً كما بيّنا في المقدمة بأهمية ”الإدارة بالمشارك“ والإدارة بالأهداف في الخطط والتقارير، فما الذي يمنع تفعيلها في بيئة الأعمال؟ ولماذا لا يزال القرار يًتخذ من الأعلى بينما يُطالب الموظف فقط بالتنفيذ دون أن يُشرك في التخطيط أو التقييم؟

وللرد على هذا التساؤل في رأيي يمكن أن يوزع على ثلاث مستويات وهي:

1 - المستوى الثقافي للقيادة: ونعني بذلك الطريقة التي يفكر بها القائد ويتصرف بناءً عليها، وتشمل قناعاته وموقفه من الموظفين، وطريقته في اتخاذ القرار، ومدى تقبله للنقد والمشاركة وليس فقط ما يعرفه من معلومات أو مفاهيم أو نظريات إدارية، بل كيف يرى نفسه والآخرين داخل المؤسسة، ولذلك حينما نقول إن كثيراً من المؤسسات لا تطبق الإدارة بالمشاركة فذلك ليس بسبب الجهل بالفكرة أو بالنظرية، بل لأن المستوى الثقافي للقيادة لا يزال يحكمه الخوف من التغيير وضعف الثقة بالناس، والتمسك بالسلطة الفردية وبالمنهج «الطريقة أو الخطة أو الإجراءات المنظمة التي تُتبع لتحقيق الهدف» والنهج «أو الميول أو الأسلوب أو الطريق الذي يسلكه الإنسان أو المؤسسة في تفكيره أو أسلوبه»

2 - مستوى البنية التنظيمية: ونقصد بذلك الهيكل الإداري والأنظمة، والإجراءات التي تنظم العمل داخل المؤسسة وكيف تُوزّع الأدوار والصلاحيات، وكيف تُتخذ القرارات وتُتابع، ففي المؤسسات ذات البنية التنظيمية التقليدية، القرارات غالباً ما تُتخذ فقط من القمة، وتُمرّر للأسفل دون مناقشة، والإجراءات معقدة، ولا توجد قنوات حقيقية لتوصيل صوت الموظف أو استقبال مقترحاته، والنتيجة: هي مهما كانت القيادة راغبة في المشاركة فإن الهيكل التنظيمي لا يسمح، لأنه لا يوجد نظام واضح وشفاف لتفعيل هذه المشاركة، أما في المؤسسات ذات البنية التنظيمية المرنة والداعمة للمشاركة فإن هناك توزيع واضح، ومتوازن للصلاحيات، وتشجيع لفرق العمل المتعددة، وقنوات تواصل رسمية، وغير رسمية لتبادل الرأي وما إلى هنالك.

3 - مستوى الثقة داخل المؤسسة: ونعني بذلك مقدار الثقة المتبادلة بين الإدارة والموظفين، وبين الموظفين أنفسهم، وهو من أهم العوامل غير الملموسة التي تؤثر بشكل مباشر على بيئة العمل ونجاح المبادرات الإدارية مثل الإدارة بالمشاركة أو الإدارة بالأهداف، فعندما يشعر الموظف أن رأيه مسموع ومحترم حتى لولم يؤخذ به وأن الجميع يتحدثوا بصراحة ودون خوف من الانتقام أو التهميش، والعلاقات المهنية مبنية الاحترام والتقدير المتبادل، لا على الشك أو المجاملة فإن النتيجة غالباً ما تكون بيئة صحية يُشارك فيها الجميع وتُطبّق المشاركة بشكل فعلي لأن الموظفين يثقون بأن مساهماتهم لن تُهمش أو تُغيب، والعكس هو الصحيح

الخلاصة والاستنتاجات:

لقد اتضح لنا أن الإدارة بالمشاركة ليست مجرد نظرية إدارية حديثة، بل هي ثقافة وممارسة تعكس نضج المؤسسة وثقتها في موظفيها، كما وأن برغم ترويج المؤسسات العربية لمفاهيم المشاركة إلا أن الممارسة الفعلية تكشف عن بقاء القرار في يد الإدارة العليا دون إشراك حقيقي للموظفين، كذلك، ولا تزال بعض عقليات المديرين قائمة على التحكم والسيطرة، بحيث يعتبرون المشاركة ضعفاً أو تهديداً لمكانتهم، وأن الكثير من المؤسسات حدثت أدواتها وهياكلها التنظيمية لكنها لم تُحدث نظرتها للموظف، ودوره فبقيت المشاركة سطحية وغير فاعله، وأنه لا يمكن للإدارة بالمشاركة أن تنجح في بيئة يغيب فيها الاحترام والثقة المتبادلة بين القادة والعاملين

العلاج والخاتمة:

رغم ما يُقال عن الإدارة بالمشاركة، وما يُكتب عنها في الكتب والخُطب، إلا أنها في واقع كثير من مؤسساتنا لا تزال فكرة جميلة لم تجد من يؤمن بها إيماناً حقيقياً، ولذلك فإن الحل او العلاج من وجهة نظري لا يكمن فقط في تحديث الهياكل أو إطلاق المبادرات، وإنما في تغيير نظرتها إلى الإنسان الموظف أو الإنسان العامل بوصفه شريكاً في الفكر والعمل لا مجرد أداة أو منفذ هذا أولاً

وثانياً: نحن بحاجة إلى قادة تُكافئ وتحتضن وتُحفز وتتفاعل مع الفكرة كما تُكافئ، وتُحفز، وتتفاعل مع الإنجاز فالقيادات الناجحة ليست تلك التي تملك أحدث الأجهزة، أو أكبر الهياكل التنظيمية في مؤسساتها، بل هي التي تمتلك القدرة على الإصغاء، وعلى إشراك من في الميدان في القرار.

وأخيرا ً: إننا أمام لحظة فارقة، وهي إما أن نُعيد للإدارة معناها الإنساني الحقيقي، وإما أن نظل ندور في حلقة مفرغة من التنظير دون تأثير، وأن الفارق بين مؤسسة أو أسرة أو فرد يزدهرأو يتقدم، وآخر يتآكل أو يتخبط غالباً ما يكمن في السؤال التالي البسيط هل نحنُ من يُدير حياتنا أم نتركها تُدار بالصدفة والعشوائية؟.