الشعائر الحسينية بين التأصيل والتشكيك 2

من خلال ما سبق بيانه في المقال الأول وضحت لنا أهمية شعائر الحسين وإحيائها حيث ان بها حفظ الدين والمذهب ولهذا بعد ان عرف أعداء المذهب بقوة تأثير هذه الشعائر عملوا على محاربتها وتهميشها وقد وصل ذلك الى حد القتل والتمثيل بالجسد لمن يمارسها ولكن ذلك لم يمنعها ولم يوقفها.

وللأسف ما أصبحنا نعانيه في زماننا هذا هو الهجمات الداخلية ضد هذه الشعائر بعناوين براقة أصبح يتأثر بها بعض عامة الشيعة، وقد انتشرت في الفترة الأخيرة الكثير من هذه الأمثلة في وسائل التواصل الاجتماعية وذلك بعناوين وأساليب عدة احدها بإدعاء توجيه وتجديد هذه الشعائر وأخرى بهدف الإصلاح فيها وأخرى بهدف التشكيك في مطلوبيتها وفائدتها، ولا يعني إننا نقول ان كل ما يدخل تحت أحد هذه العناوين هو بدافع الضرب أو التهميش للشعائر ولكن الذين يهدفوا لذلك تكون تشكيكاتهم باستخدام إحداها غالبا. وسيتضح بين طيات هذا الجزء من المقال إحدى كيفيات المحافظة على الشعائر الحسينية

كيفية المحافظة على الشعائر الحسينية والتصدي لمحاولات التشكيك فيها

اما حفظ الشعائر الحسينية فيكون بطريق دعمها المادي والمعنوي والتشجيع عليها والمشاركة فيها، ومن جهة أخرى فهم حقيقة الشعائر الحسينية وأهميتها وبالتالي تكوين الحصانة الذاتية من الشبهات المثارة على الشعائر من قبل مدعي الحداثة ومن قبل المخالفين وغيرهم، ومن جهة ثالثة الوعي ثم الوعي ثم الوعي، فالهجمات «الداخلية» على الشعائر لا تأتي بعناوين مباشرة «على خلاف الخارجية» وإنما تحت عناوين براقة - مثلما أشرت سابقا - يراد من خلالها تضعيف هذه الشعائر بطريقة أو أخرى وللأسف أن بعض عامة الشيعة حاليا تساهم في دعم هذه الهجمات بسبب الجهل فهم ينشرون كل ما يكتب في الشعائر بدون الالتفات لما هو باطن ذلك أو ما وراءه والذي يؤدي شيئا فشيئا في تضعيف قيمة هذه الشعائر في نفوس المؤمنين.

ومن أمثلة التشكيكات التي تثار باستخدام عناوين براقة التالي:
  • لماذا ترفعون أصواتكم بالبكاء فذلك لا يعطي صورة جيدة لمخالفينا وبالتالي تساهمون في تشويه صورة المذهب.!
  • ما الهدف من لبس السواد إذا كان الإنسان لم يصلح نفسه داخليا، فإصلاح النفس هو احد أهداف ثورة الحسين وليس لبس السواد.!
  • ما الغاية من ضرب الجسد كما يحدث في اللطم والزنجبيل فالحسين لم يأمرنا بجلد الذات وإنما خرج لإحياء القيم النبيلة.!
  • هل كان هناك زنجيل أو غيره في زمن الأئمة لكي تقوموا به، الزنجيل من البدع.!!

وعلى ذلك فقس...

ويمكن القول ان شبهاتهم تدور في أربعة محاور هي: توهين المذهب، قيمة الشعائر الحسينية في إصلاح الذات، الإضرار بالنفس، توقيفية الشعائر وسأتناول هذه المحاور واحد تلو أخر بغرض تبيين حقيقة هذه الشبهات والإثارات

المحور الأول: مدار توهين المذهب

قال تعالىوَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ ﴿صدق الله العلي العظيم «1»

دائما ما تأتي على مسامعنا كلمة توهين المذهب، وهذه الكلمة تأتي غالبا نتيجة للاستهزاء من قبل الآخرين.

فالسؤال هنا، هل لاستهزاء الآخرين قيمة أم لا؟

يمكن تقسيم الاستهزاء سواء من الفرق الإسلامية الأخرى أو حتى الملل الأخرى على ثلاثة أقسام وهي:

الأول هو الاستهزاء بالباطل وبغير وجه حق، وهذا استهزاء لا يؤثر ولا يلتفت له، اما الثاني فهو الاستهزاء بسبب اختلاف الأعراف والبيئات والأعراق فلعله تكون هناك شعيرة تدل على معنى سام ورفيع ولكن يفهم منه الآخرين نتيجة لاختلاف ثقافاتهم أمر آخر، وهذا الاستهزاء كذلك لا يستلزم بالضرورة الممانعة للشعائر وتعظيمها بحسب رأي أكثر الفقهاء والسر في ذلك يعود الى حفظ الهوية الدينية كما ذكرت ذلك سابقا في أهمية الشعائر، فكما ان البلدان تحفظ هويتها الوطنية والتراثية، فالشعائر الحسينية أيضا هي من ضمن الهوية الدينية التي لا يجب التفريط بها بسبب استهزاء الآخرين ولو ان المسلمين بالعموم وكذلك الشيعة بالخصوص التفتوا لكل استهزاء يرد على شعائرهم ومعالم دينهم لمحق الدين ولم يبق من معالمه شيء بل لتبدلت هويتهم الدينية لهوية غيرهم بسبب الالتفات الى ما هو مقبول عند الآخرين لا ما يقبلوه أنفسهم، ونجد ان غالب الشيعة الذين يـتأثرون بهذه الاستهزاءات ويقومون بمهاجمة الشعائر الحسينية نتيجة لها، يعانون من ظاهرة الانهزامية قبال الآخرين والتي تأتي نتيجة للضعف في الدين فتجد ان المؤمن الشيعي كلما زاد تدينه زاد ارتباطه وتعظيمه لشعائر أبي عبدالله الحسين رغم كل الظروف والمؤامرات التي تحاك ضدها، وخير مثال على ذلك هم مراجع الدين سدد الله خطاهم، وفي هذا نتذكر محيي الشعائر سماحة اية الله العظمى الميرزا جواد التبريزي حيث كان كثيرا ما يشدد على حفظ ودعم الشعائر الحسينية وكان ممن يشارك فيها ويحييها، وعلى رغم معرفتنا جميعا بتعظيم ديننا الحنيف للشعائر، إلا انه ومن باب التأكيد على ذلك وعدم إغفاله كتب سماحته توصياته قبيل وفاته في تعظيم الشعائر الحسينية ضمن وصيته رحمة الله عليه وقدس الله نفسه.

وأما القسم الثالث فهو الاستهزاء لجهات واقعية، وهذا يلزم منه الهتك والهوان، وهما معنيان متلازمان، فإذا جئنا لتعريف الهتك فهو كشف المستور، وبنسبته الى حرمة الدين او المسلمين فقد يراد منه كشف نقاط الضعف في المسلمين أو المؤمنين وكشف الستر عن ذلك، مثل هتك حرمة المؤمنين او كشف النقص والضعف فيهم مما يؤثر في زوال شوكتهم وضعف قوتهم وهذا بالتالي يؤذي الى الوهن فهو خلاف أغراض الشارع ونقيض أهدافه في التشريع.

وبالنتيجة نستخلص ان قسمان من السخرية لا يوجبان الهتك او التوهين وإن تخيله الباحث أو المتتبع للشعائر الدينية واما القسم الثالث فهو يؤخذ بكامل اعتباره، والذي يكون لأسباب حقيقية كالهتك مثلا، ولتتضح الصورة يجب ان نعرف أن الهتك يعد من مصاديق التحسين أو التقبيح العقليين، ولكن هذان الموردان يكونان أحيانا صادقين وأحيانا غير مطابقين للواقع، فلا يكونوا صادقين بل كاذبين، فإذا عرفنا ان العقل يكون على قسمان احدهما العقل النظري - وهو العقل الذي يعتمد على جنبة إدراك الأشياء ووجودها فقط ولكنه بذاته لا يوجب تحريكا او تربية في الإنسان - وهناك العقل العملي - الذي هو نوع من التحريك والباعثية والجذب - فإذا ما ارتبط العقلان سينتج إدراك حُسن وقٌبح الأشياء وبالتالي سيكون محفزا ومحركا او زاجرا ومؤدبا للنفس، ومن هنا نعرف انه لو كان التحسين والتقبيح كاذبين فانه سيكون عاملا خاطئا ومزيفا للنفس ليحسن لها القبيح ويقبح لها الحسن، بعد هذه المقدمة نعرف انه اذا ما حصل الاستهزاء والذم بسبب جو إعلامي مضلل على سبيل المثال كأن يكون هناك ترويج لفكر معين في الإعلام بما فيه المواقع الالكترونية ومواقع التواصل الاجتماعية وغيرها فأنه سيجعل الفرد يستقبح أمراً حسن أو يستحسن أمراً قبيح وهذا سيؤدي الى تكوين عرفاً كاذباً لا يعتمد عليه، ولهذا يقول الفقهاء ان تشخيص الموضوعات بيد العرف ولكن ليس عموم العرف الذي يتأثر بأي فكر خارجي او زخم إعلامي وإنما العرف الواعي لحقيقة الأمور ومداركها، رغم ذلك قد يكون أحيانا حتى العرف الواعي مختلفا في أمراً ما، فهل يجب حينها التناحر كما يحصل غالبا وللأسف؟ بالطبع لا، وإنما يتم الرجوع هنا للفقيه الجامع للشرائط ليحدد الحكم الشرعي مع التفاته لكل الأحكام الخارجية الثانوية، ولا اعتبار لأي أصوات خارجية تتكلم بتشخيصها لان رغم كون القضية هنا من الموضوعات الراجعة للعرف إلا انه في حال اختلاف العرف يكون الرجوع في تحديد الحكم للفقيه الجامع للشرائط وهو مرجع المقلد.

المحور الثاني: الشعائر الحسينية وإصلاح الذات

يمر على مسامعنا بين الفينة والأخرى انه يجب أن يكون هناك معرفة حقيقة بسبب خروج الإمام الحسين ويستطرد أن أهم الأسباب هو إصلاح الذات ولكنهم يكملوا القول بأنه يجب إصلاح الذات ولكن لا داعي للاهتمام بالأمور السطحية الثانوية أو القشور «والقصد بهذا هو الشعائر الحسينية!»، وكذا يقال بصيغة أخرى ان الشعائر الحسينية «لا قيمة لها في نفسها» من غير ان ترتبط بإصلاح النفس، وهذا من المغالطات الواضحة والمنتشرة هذه الأيام بين البعض، فما هي الملازمة بين الاهتمام بالشعائر الحسينية وعدم العمل على إصلاح الذات.

والسؤال الذي يتبادر الى الدهن هنا: هل الشعائر الحسينية لا تساهم في إصلاح الذات؟

اما إجابة هذا الاستفهام فهي بديهية نوعا ما لدى عموم الموالين لآل محمد ولكني سأتعرض لبعضها بصورة موجزة جدا.

فإما إذا ما جئنا للعوامل بالشعائر الحسينية التي تؤذي وتعمل على إصلاح النفس من الجهة العقائدية، فالشعائر الحسينية تعمل على تثبيت الهوية الشيعية في نفوس المؤمنين بتعميق التولي لآل محمد في نفوسهم والبراءة من أعداهم وتعمل على تكريس الأهداف التي من اجلها نهض الإمام الحسين والتي منها عدم معونة الظالم، الإباء وعدم القبول بالذلة، والتضحية في سبيل الله تعالى، وكذلك فهي تعمل على توثيق الارتباط بآل محمد .

وإذا جئنا من جهة اجتماعية فهي عامل مهم في توطيد اللحمة والعلاقات الاجتماعية بين أبناء المجتمع، فمجالس الحسين وآل الحسين لا تنقطع خلال العام ويحضرها الصغير والكبير وتوجد مجالس للرجال ومجالس للنساء ومجالس مركزية كبرى وأخرى صغرى تكون خاصة بمنطقة معينة او حتى بعائلة معينة وهذه التجمعات بكل تأكيد تساهم في توطيد العلاقات الاجتماعية،

اما من الجهة الأخلاقية فمجالس الحسين تساهم في تنشئة الأجيال مزودة بالمبادئ الحسينية، وكذا تمهد الطريق لإصلاح النفس من عدة جهات إحداها التأسي بأخلاق وأدب آل محمد من خلال استماع فضائلهم وسيرتهم، وكذلك تعمل على توجيه الشخص للقرب الى الله والابتعاد عن الأجواء المقربة للأمور الباطلة من حيث أشغال وقت الفارغ بحضور مجالس الذكر، بل الحصول على الأجر والثواب العظيم وأيما عمل ذلك حينما يكون إحياء شعائر الحسين سلام الله عليه.

وسيتضح ذلك أكثر بمثال واقعي على قضيتنا هذه وهو شعيرة البكاء، كمثال على أحد العوامل المساهمة في تهذيب وإصلاح النفس وهو على عدة جهات.

البكاء كعلاج نفسي: أكدت الكثير من الدراسات الطبية ان عدم البكاء ساهم في ظهور الكثير من الأمراض النفسية والاضطرابات الروحية، وان في البكاء علاج لها، وقد أهتم بعض الأطباء الغربيين في عمل أجواء بكاء لبعض مرضاهم كوسيلة علاجية، أصطلح لها «بالبكاء الاصطناعي».

القران الكريم والبكائين: أثنى الله عز وجل في كتابه الكريم على البكائين وقد حث الاسلام على البكاء من خشية الله والتوبة من الذنوب والرجوع الى الله تعالى، قال تعالى» وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا» «2»، ونلاحظ ان القران اثنى على الرهبان والقسيسين بسبب فيضان أعينهم بالدموع نتيجة لمعرفتهم الحق، قال تعالى وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ﴿«3».

البكاء يقرب الى الفضائل: مما لا شك فيه ان الكبر والعصبية والعجب هي أمراض وصفات مذمومة، والبكاء يستطيع ان يقتلع الكثير من هذه الصفات المذمومة إضافة الى غيرها كالقساوة والعنف والإرهاب، ليرجع النفس الى سلوكها السليم، والبكاء عبادة فالإنسان يكون في اقرب حالاته الى الله عند الانكسار والتذلل والضعف، والبكاء يصاحب هذه الحالات النفسية العالية ومن هنا كانت روايات أهل البيت معبرة عن الحسين بأنه «قتيل العَبرة»، والعَبرة هي الدمعة والبكاء المتعلق بالفضائل، وروي عن رسول الله انه قال «انما بعثت لاتمم مكارم الاخلاق». «4»

يتبع....

[1] سورة المائدة, اية 58
[2] سورة الإسراء, اية 109
[3]سورة المائدة, اية 83
[4] فقه الشعائر الحسينية للسند/الفصل الاول ص 63-64