سنين الصمت ومصائبها

بطلٌ تكثر الحكم حول بأسه وتدرسه الثقافات كقوة، قد انقلب لنقطة ضعف وخنوع لا قوة، مكث بيننا نحن أهالي #القطيف حتى سلب من أرضنا تلك البركة. هو الصمت الأخرس؛ الذي سيحول بيننا إلى أن تبرد دماء شهداء الفاجعة الدامية، والتي تواكبها الآن ضجة إعلامية واستنكارات متضامنة كظاهرة معتادة لم تبارح كل مصيبة وكل حق مفقود، ثم يعود ليحل مكان هذا الضجيج، فمن الجاني؟ وما هو الموقف المطلوب في هذه المرحلة، الذي ينبغي أن نصعده لكي نطرد عنا هذا الخطر المحدق من حيث ما سيخلفه الصمت إن لم يكن هنالك حراك الآن؟، ثمن دماء الشهداء ماهو وماهي حيثيات مطالبه؟. تقول فضيلة الفاروق ولعل الاتفاق أن هنالك فوارق في الصرخات بين القضايا ككل فإن «هناك قضايا لا تحلها صرخات الجرائد، هناك قضايا يحلها العدل والقانون والضمائر الحية».

صمت قاتل تسلل من خلاله الدواعش حين تم تحويل الفاجعة الدامية في الدالوة إلى عرس وطني، تناسى فيه دعاة اللحمة الوطنية التي انصهرت بلهيب الانفجارات، أسبابه وما وراءه حين كان من المفترض أن تنبع الدعوة لعدالة وطنية، كان علينا أن تصدى للفاجعة بعد حينها، فلم تكن الدعوة كافية كما هو معروف حتى أحبط من أحبط منها، إن الحاجة اليوم تقوم على أهمية قيام مجتمع يمسك بزمام القانون ويتصدى لمشاكله متكاتفاً مع الدولة، فكان من الأجدى الاستماع والتعاون مع الأصوات التي تدعو لاستئصال كل منبر فتنوي ومعاقبة الأقلام المسلحة بالطائفية، ومحو الكراهية التي ضمتها الكتب الدينية المدرسية، وإيقاف أدوات الإرهاب الفكري الإعلامي، مع دعم الوطنية بإرساء حقوق المواطنة وموازنتها وفق الحاجات الملموسة كقيم، والقبول بالتعدد المذهبي بما فيه المذهب الشيعي كمذهب معترف به ضمن المذاهب الرسمية، وإنشاء المساجد والمقابر للمجتمع الشيعي الكائن في غير منطقته التاريخية، ولكن مماطلة التحرك أتبعها إراقة دماء شهداء القديح والتي عُد الحدث ذو الحصيلة الكبرى، تصاحبه حالياً تحركات استنكارية تضامنية، إلى أن لحقت هذه الحادثة تفجير حي العنود الغادر، وهاهو الصمت قد بدأ ينسدل ولم تبرد دماء الشهداء بعد، فإن من طالب باللحمة سابقاً هو واقعاً المطالب الأول بالتصدي للمطالبة بقانون التجريم. وقد ﴿كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون حان لكم الآن أن تقيموا مجتمع القانون فعلياً فلم يعد الضجيج اللحموي وحده ينفع.

وحيث لم يكن الصمت وليد هذه السنة، فقد عايشت القطيف سنين صمتٍ أردت بحالها ضاعت بها حقوقها، وفي هذا الجانب كان القياس بمضمون عقلي من حيثية أن «المصيبة ليست في ظلم الأشرار بل في صمت الأخيار»..!!

صمتنا حينما رأينا أرضنا تنتزع من أراضي المنح الحكومية لتعطى لغيرنا، فصارت تحمل أعلى كثافة سكانية على المملكة بل على دول الخليج العربي.. انكتمنا حين أن القطيف كانت تحتل أدنى كفاية سريرية في فئتها من المحافظات على مستوى المملكة، وبكمنا لحرماننا من مدينة جامعية للقطيف، ولم ينطقنا أنها المحافظة ذات سابع أكبر حجم طلابي على مستوى المملكة وليس بها جامعة، راقبنا هويتنا تطمس لمنطقة هي أقدم تجمع بشري في تاريخ الخليج وليس لها ذكر حتى في كتب التعليم، منطقة يزخر المتحف الوطني من متروكاتها الأثرية، بل ومتروكات حضاراتها تتجول بين متاحف العالم وتسكن المتحف الوطني بالرياض وتغلب بتواجدها ما يحتويه، سكتنا عن هدم آثارها وإهمال مواقعها الأثرية، وردمها وتسويف صيانتها إلى أن تحال للإندثار بلا أسف!! خنعنا لوطئة التدمير حين صارت هي الوحيدة التي حُوصر عمرانها من أجل النفط وتلاشت بقعتها الزراعية، وحين جففت أرامكو عيونها، ومازلنا صامتين أمام استقطاع حدودها منذ أعطيت لربيباتها «القرى والهِجر»، فخلف ذلك أسر القطيف في حدود أنتجها توسع تلك القرى والهجر لمدن كبيرة عليها، فخلفت وراءها أزمة سكنية جعلت القطيف تأكل نفسها من الداخل على زرعها وبحرها بغير صوت غيور منّا..!!

صمتنا وصمتنا وصمتنا بعد هذه السنين المرّة، ولكن........ بعد أن استحلت الحرمات وأريقت الدماء، أيراد الاعتقاد أننا سنصمت، ماكثين في صمتنا؟؟!، كلا فالصمت صار يسلبنا لا يحمينا..!! لابد أن يقوم مجتمع القانون وهو كما يقال «قد يكون صحيحا أن القانون لا يمكن أن يجعل شخصاً يحبني، لكن بإمكانه منعه من إعدامي زوراً، وهذا في اعتقادي في غاية الأهمية».

قد حان للأفعال أن تُنظر وتكون شواهد، حيث لابد الالتفات إلى أن التحرك سيعدو ناقصاً إذا لم يتم تشخيص ومعالجة الأمور على أرضية الوطن، الأمور واضحة ولا علاج دونها سيحقن الدماء.

إن تصالح النفوس ليس إلا هدف لاحق للتحركات الحالية التي يبنغي أن تبدأ حالاً قبل أن تجف الدماء وهذا يمنتج حاجة استيعاب أن «السلام الحقيقي ليس مجرد انعدام التوتر؛ بل هو وجود العدالة». فإن طال صمت المجتمع بعد الفاجعة فلن يتوافر لها أن تأمن من غدر الطائفية، وحتى لا يقال تعب الكلام من الكلام وحتى لا يصدق من قال أن «العرب ظاهرة صوتية»، لا بد أن يقال آن للحراك أن يوقف الصمت ليغدو الفعل قانون يحمي المجتمع.