محكمة بين أذن ولسان!!

الاصغاء فن قليل من يجيده ويمتلكه، وعلى النقيض منه داء الثرثرة، اللسان والشفتان يتغلبون على الأذنين في كثير من المواطن، يعتقد البعض ويظن أن الأذن مستهلكة وغير منتجة، ولكن «الأذن الواعية» هي أذن الحكيم ومنها تولد الحكمة، هذه الأذن تساهم في الانجاز وهي المعدة له، فلولا هذه الحواس لما استطاع اللسان أن يتكلم، وكلما فتح اللسان لبقية الحواس المجال، كلما امتلك من الثراء الكثير، فهل يستوعب اللسان هذه الحقيقة؟!

يتسابق اللسان في جذب الأضواء إليه، بينما الأذن تجلس وحيده لا تثير أي زوبعة، وهذا لا يعني أن الجلجلة يصاحبها بالضرورة جودة الطحن!!، فكم من حكيم يختبأ خلف صمت طويل، وكم من ثرثار لا يجني غير العار والشنار؟!

العقل هو الحاكم والقاضي، فهل سيفسح للأذن مجالاً في مزاولة نشاطها أم أن قسمة الليث من نصيب اللسان بلا منازع؟!، العقل إذا تحلى بالإنصاف سيعطي لهذه الأذن شيئاً من حقها، فالاستماع خاصمه الكثير، ولهذا ذهبت الرحمة وغادرت؛ أوليس الله جمع بين الرحمة والإصغاء في قوله تعالى: «وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ»، الملاحظ أن القرآن الكريم يُقرأ واللسان لا يتورع عن هذه الثرثرة!!

أي جسارة لهذا اللسان الذي كثيراً ما ورط صاحبه، إننا نحذر الثعابين ولا نحذر من هذا الثعبان الذي أودعه الله في قفصين «الشفاه والأسنان»، بينما الأذن كانتا اثنتين بارزتين، فهل ستنال هذه الأذن حقها أم يجور المخبوء كعادته؟!

حياتنا اليومية يغيب عنها فن الاصغاء، ولهذا تتفشى المشاكل ويندلع الصراع، تقول الزوجة لزوجها: ألم تسمعني وأنا أقول لك...؟!، وكذا الزوج يقول لزوجته: أما سمعتي...؟!، والمعلم: هل سمعتم...؟!، والأم: أسمعت...؟!، والأب: هل سمعت...؟! وتتسع رقعة المشكلة لغياب الاستماع أو قل ضياع الكلام دون مقيد.

كثيراً ما يكون الحل هو أذن صامتة صاغية، المشاعر مكبوتة والآهات مخروسة والتنفيس لا طريق له، فهل قيدنا هذا اللسان وأطلقن الحرية للآذان؟! هل ناصرنا الأذن المهضومة ولو لبرهة زمن؟! هل أخرسنا جبروت هذا الثعبان المتسلط والمستحوذ على كل شيء؟!، كم من فتاة تعاني الحرمان العاطفي لكونها لم تجد أذناً تتلقى هذه الأحاسيس المحبوسة؟! كم من تأوهات لفلذات الأكباد تضيع ولا من مجيب؟!

أيها العقل القاضي، أحكم بالإنصاف فهذا اللسان تفرعن وتجبر، وهذه الأذن لم ترتوي من شدة العطش، أيها العقل القاضي، مشاكلنا أنت الذي أشعلتها وأنت الذي أذكيت أوار نيرانها بحكمك الجائر وانحيازك لهذا الثرثار المهذار، فهلا كبحت جماحه وأفسحت الطريق لهذه الأذن المسكينة؟!

وأنت أيها الحصان المتمرد، أنت أيها اللسان الظالم المتسلط كن منصفاً وفسح المجال لشقيقتيك، أيتها الشفتان زمي على بعضك أكثر، ويا أضراس بني آدم عضوا على النواجذ بشدة، حتى لا يفر السجين الملطخ بالجرم، أنتما أيتها الشفتان مشتركتان في الوزر، والتواطؤ واضح منكما أيها الفكين المليئين بالأضراس المآربة؛ فضيقوا الخناق، ثم أنتِ أيتها الصماء البكماء البليدة لماذا لا تنتزعين حقكِ من هذا اللسان الظالم؟! الشيطان الأخرس لقب نتوجكِ به؛ حتى تأخذي الحق فالسكوت لا يقدم ولا يؤخر.