خرفنة المتدين

في مجتمع ديني إسلامي تم فيه تحجيم الجن من أساطير جاهلية واسعة التفاصيل، إلى كائنات ما ورائية ذات دور محدود، خاضعة للمشيئة الإلهية، ويمكن أن يقهرها التعوذ بالله سبحانه لوحده، عادت تلك الكائنات وتوسعت عبر التراث الشعبي المتوارث فوق أرضية بيئة من هواجس الناس ومخاوفهم في أزمنة مظلمة، ليصبح ذلك التراث الشعبي ونصوصه المختلقة، أرضية مناسبة لانطلاقة وتلاعب كل من يريد التلاعب بعقول الناس عن وعي وعمد أو بدون وعي.

لقد ابتعد الناس عن تراثهم الديني النقي وعقائدهم الصحيحة، على الأقل في موضوعي السحر والجن، وأصبح الموروث التراثي الشعبي المتداول يلقي بظلاله الثقيلة على المعاني القرآنية والدينية الحقيقية ليحجب معانيها الأصيلة.

هذا اللعب بالمفاهيم كان سائداً ومتيسراً بسهولة تامة خلال العقود المنصرمة والقرون الماضية، حتى لمن هم خارج الدائرة الدينية، وكان بعض من لا ينتسبون للإلتزام الديني يؤلفون قصص خرافية مفعمة بالإثارات وينشرونها عبر أحاديثهم. فكان من ذلك مثلاً مما سمعناه ينقل محلياً، أن أحدهم كان يشاهد جنيات في غرفة من غرف بيت عائلته، وكانت الجنيات تطلب منه ومن العائلة، التنحنح قبل دخول الغرفة، وكان يشاهد رؤوس جن تطير وما شابه... الخ. ومع مرور الزمن إتضح مدى بعد هذه الشخصية بشكلٍ كبيرٍ عن الساحة الدينية.

هذه الشخصية كانت تؤلف وتنشر شفاهياً لغرضٍ ما، ربما من باب التهريج على بعض المتدينين، أو للتغطية على شيءٍ ما... الخ، والمهم هنا ليس تلك الحادثة أو حادثة ما بعينها، وليس حديث الجن فحسب، لكن الفكرة هنا التي يجب التنبيه لها والتوعية بأبعادها، هي فكرة خرفنة المتدينين من قبل أشخاص من خارج الدوائر الدينية أو من داخلها أحياناً لتحقيق غرضٍ ما.

ولعل مصطلح خرفنة من المصطلحات الحديثة جداً، لكنه مهم جداً هنا في كشف وتسليط الضوء على طبيعة كثيرٍ من الممارسات الإجتماعية في كثيرٍ من المجالات المختلفة، التي تقدم فيها الإبتسامات والكلمات المعسولة والجميلة والمغرية والمعاملة الجذابة في الواجهة، ثم يأتي الخنجر ليطعن في الظهر.

ويقصد عادة بالخرفنة كما هو معروف حالياً، خرفنة الشباب والمراهقين من الذكور، على أيدي الفتيات في المجتمعات المفتوحة، أو من يتقمص شخصياتهن رقمياً خصوصاً في مجتمعاتنا المحلية المغلقة، للعبور لبعض المصالح المادية عادة. لكن في الواقع، فإن الكثيرين يمارسون تلك الخرفنة للآخرين باستمرار، وهي ظاهرة بشرية تاريخية مستمرة حتى اليوم في صور متنوعة.

فلا شك أن التاجر يخرفن زبائنه ومستهلكي بضاعته لدرجة ترتقي لمستوى النصب التام أحياناً. ولا شك أن السياسيين والأحزاب السياسية تخرفن أتباعها أحياناً وترتقي على ظهور الأتباع لتحقيق مصالح قد تصل في بعض الأحيان لتنحصر في مصلحة القيادات الحزبية أو الفرد المخرفن للجماعة. كما أن بعض المتدينين وبعض رجال الدين يخرفنون أفراد المجتمع المتدين أحياناً بوعي أو دون وعي، للحصول على مصالح مادية أو معنوية، كالسلطة الجماهيرية المعنوية والهيبة والمكانة والوجاهة.

وهنا لو اتفقنا على أن الخرفنة في المجتمع الديني وباسم الدين ظاهرة من الظواهر الطبيعية الموجودة، كما هي بقية ظواهر الخرفنة الموجودة في بقية المجتمعات والمساحات البشرية، فكيف يمكن إذاً للمتدين الفرد التقليدي، أن يتلافى مآزق خرفنته من قبل آخرين يخرفنون الملتزمين دينياً، خصوصاً مع إعترافنا بخصوصية حالات القداسة في الساحة الدينية، وخصوصاً عندما يكون هذا المخرفن للآخرين من ذوي الإختصاص الديني، الذين يملكون حصانة فاقت بكثيرٍ حصانة كل المتخصصين الأكاديميين، من أمثال داروين وفرويد وأينشتاين... الخ. حيث يحق لأبسط فرد في الساحة الدينية بشكلٍ فوضوي، أن ينتقد تخصصاتهم ونظرياتهم العلمية، بالإتكاء على العصي الدينية، وبالبحث عن مختلف الذرائع، وإن كان فقط بشكلٍ مفتعل من أجل الخرفنة، كما يحق تماماً لأي فرد بشري منطقياً وبشكلٍ علمي، محاولة إعمال العقل في نتاجهم، والسير في طريق البحث العلمي، لنقد أفكارهم ومقولاتهم ونظرياتهم؟!.

هذا السؤال هنا، يطرح نفسه أمام الفرد، ليبقى الفرد هو المسؤول الأول عن خلاص نفسه وذاته.