الإنطباع الأول .. والدرس الأول

وها أنا ذا أتقدم خطوة تتلو الأخرى في هذه الغربة، وأتعلم كل يوم درسا جديدا ومختلفا عما سبق. اكتشفت أن الغربة هي المعلم الأكبر، وهي الاختبار الحقيقي للثبات على القيم والمحافظة على الهوية كروح وقلب وليس كقالب خارجي وهن خال من الجوهر. والغربة آفاق لا حدود له... مسرح عريض نلعب فيه دور الغريب الذي يجول بحثا عن الحكمة والعلم وكل شيء مختلف عما عهده وألفه طوال حياته، لكنه لا يلبث حتى يشعر بالحنين لأبسط الأشياء كوجبة تعدها الأم الغالية بحنان بالغ يضفي نكهة تتفوق على كل التوابل مثلا!!

حسنا الآن.. علي أن أقول أن ماوجدته مختلفا جدا حتى الآن هو النظام التعليمي المتبع هنا، كانطباع أول أستطيع وصفه بأنه نظام يجبرك على التفكير ويحفزك على الإبداع والإبتكار والعمل الجماعي، الذي يلزمك بقيم العمل الصادق والمسؤولية تجاه الوقت والأفراد. وليس هذا فقط فهو أيضا يستعمل المرح في بعض الموارد، ويتسم بالحزم والجد. والأهم من ذلك كله أنه يرفض التلقين رفضا باتا!! إذ استبدل التلقين بالسؤال والجواب والتوجيه والنقد والتقييم المستمر لإنتاجات الفرد، والتركيز على البحث العلمي كعامل أساسي للحصول على المعلومة، وكذلك يعمد إلى جعل الطلاب يتفاعلون مع محيطهم الاجتماعي قدر الإمكان وبشتى الطرق.

«إذا ما أردنا أن نتعرف على مجتمع ما، فأفضل طريقة هي أن نتغلغل في داخله وإلا فلن نعرفه حقا»

هذا هو أول درس ثمين تعلمته ولن أنساه أبدا ما حييت، فلن أثق بعد اليوم بالإعلام وأحاديث فلان وفلان قبل أن أرى وأسمع وأحس بنفسي وفي قلب الحدث وبعدها،، بعدها فقط سوف أصدر حكمي الشخصي بناء على ما عايشته بنفسي دون أي تأثير خارجي وهذا هو التحدي الأكبر الذي أتمني أن انتصر فيه على نفسي وعاطفتي متيحا لروحي أن تلامس الواقع بصورته الشبه موضوعية، والغربة أفضل ساحة لذلك؛ لأنه كما يقول المثل «الشوف مو مثل السمع».

في هذه المجتمعات لا مكان للمجاملات الإجتماعية الزائفة، فالصراحة والوضوح وإبداء الرأي هي الغالب في التعاملات بمجملها، وعلى الرغم من أنها تتصف بالبرود عموما إلا أنها في نظري أفضل من الدفء الزائف المغلف بقناع المجاملة والتكلف.. أعني أنها مجتمعات تسير وفق معادلات رياضية في التعاطي مع أكثر مواقفها.

في تلك السطور أعلاه لم أكن أحاول أن أقدم صورة سلبية عن مجتمعي وموطني، وإنما هي محاولة نقد ومقارنة قاصرة مني بين حضارتين - أو ربما حضارة وشبه حضارة -،، وأنا أعلم وعلى يقين بأن لكل مجتمع أو دولة أو حضارة من السلبيات بقدر ما تحمل من إيجابيات، ولكنني أعمد إلى التطرق إلى الإيجابيات في الغرب وإسقاطها على الواقع في الشرق.. ما المانع من أن نستفيد من التجربة الغربية في كل النواحي «بعد نقدها طبعا»؟؟ أليس ذلك أفضل من التذمر والتحسر والتغني بالأمجاد السالفة؟؟!

عضو نادي اقرأ كتابك