أبو طالب وظلم التاريخ......!

 أبو طالب شخصية عظيمة وجليلة ، تلقب بسيد البطحاء وشيخ قريش ورئيس مكة ، تعمده التاريخ بالإقصاء والإبعاد عن حقيقة دوره البارز في خدمة الرسالة المحمدية والدين الحنيف ، كونه الناصر الوحيد ، والمؤيد المطلق ، والداعم لهذه الدعوة الجديدة والرسالة المباركة ، ناصرها بكل ما يعنيه  النصر والفداء من معنى ، حال بين قريش ودعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من أن ينال منها سوء حتى أظهرها الله ، وبدعمه انتشرت ورست معالمها رغم انف قريش ، بهذا كظمت حقدها عليه وبثت سمومها له غدرا وظلما ، وعملت على تغيير صفحته البيضاء إلى سوداء.
 دوره الواضح في مناصرة الدعوة وإظهارها على الملأ ، وكذلك الوقوف سدا منيعا أمام غطرسة قريش وخيلائها ، زرع له الحقد والعداء الواضح من المعارضين والمعاندين لهذه الدعوة ، حتى مع إظهار الدعوة وانتشارها ، مازالت بعض القلوب لم تؤمن وتحمل الحقد والضغينة على الإسلام ، والحقبة الحاكمة التي مرت عبر التاريخ كانت ضد مدرسة أهل البيت ، والناس على دين ملوكهم والتاريخ كتب على مزاج الملوك ، فوضعت بالأموال ما يمكن وضعه وتغيير ما يمكن تغيره ، وزادها دعما البغض لعلي بن أبي طالب عليه السلام حيث أن أعداءه كثيرون ، ولم يكن التاريخ منصفا في يوم من الأيام ، بهذا كان هذا التجني على أبي طالب ، من دون النظر والتحقيق في الأدلة الحسية والمادية في هذا الجانب حتى لو تناقضت مع القرآن نفسه.
 أراد البعض أن يبرر هذا الدور وقال: إن الدور الذي لعبه أبي طالب في خدمة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان وصية من أبيه عبد المطلب حيث أمره بذلك ، وكان من باب صلة الرحم والنسب والكفالة....، هنا نقول من زعم ذلك فهو مخطئ ، لأنها تتنافى مع أبسط قواعد الدور الذي قام به ، يقال: (الولد سر أبيه) أي العزيز والغالي الذي لا يعادله شيء ، أبو طالب عكس هذه النظرية فكان يستبدل أولاده مع ابن أخيه في الفراش عدة مرات في الليلة الواحدة خوفا من أن تعلم قريش بمكانه فتصيب منه سوء ، وهذا لا يكون إلا عن عقيدة صادقة وعلم راسخ بمكانة هذا الصبي وما ينبغي لحفظه ، لكي تجعله يضحي بأولاده ويضعهم في دائرة الخطر لأجله.
 ما قام به سيد البطحاء سلام الله عليه هو محل إجماع المسلمين ، إذا من أين أتى هذا الدس واللمس في شخصية أبي طالب..؟ أليس هو الذي لعب الدور الرئيسي في إرساء قواعد الرسالة وتثبيتها...! ، ألم يكن الداعم الرئيسي والراعي والمقاوم والمحامي لهذه الدعوة الرسالية المحمدية وصاحبها...! ، إذا لماذا....؟ ، لأن المشركين والمنافقين لم يستطيعوا وقف زحف الرسالة وهو على رأسها ، وكذلك لم ينالوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بجانبه ، فانتشرت الرسالة رغما على أنوفهم ولم يستطيعوا إيقافها ، وكذلك الحقد على أمير المؤمنين علي عليه السلام حيث انه أكمل نهج الرسالة ، وقام بنفس الدور بل أكثر بقتل صناديدها وشجعانها في تثبيت قواعد هذه الدين الجديد ، وبهذا صرّح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا علي أنت مبتلى ومبتلٍ بك) ، فقد أبتلى أمير المؤمنين عليه السلام وأبنائه ومحبيه وشيعته بكره المنافقين والمشركين ونسب الكفر إلى أبيه كما نسب صفة الخوارج لمحبيه وصفة الزنادقة لشيعته ، وفي هذه قال المعتزلي [1] :

ولولا أبو طـالــب وابـنه     لما مثل الدين شخصا فقاما 

فذاك بمكة آوى وحامى     وهذا بيثرب جس الحماما 

كل هذه الأسباب أدت لهذا الدس واللمس في شخصية أبي طالب عليه السلام ، مع تأكيد الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حديثه هذا على مكانة أبي طالب الخاصة حيث يقول: (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة , وأشار بالوسطى والسبابة [2]) ، والواضح انه لم يقصد بهذا الحديث الشريف كل من يكفل يتيما ، فقد تجد بعض الكافلين للأيتام غير مؤهلين لأدنى من هذا المقام فكيف بهذا المقام العظيم وهو مجاورة سيد الأنبياء والمرسلين في الجنة ، وهذه مكانة لا يمكن الوصول إليها بالإيمان الكامل وأعمال الدنيا كلها ، فكيف بمن يكفل يتيما وهو مليء بالمعاصي والذنوب ، المقصود هنا هو أبو طالب سلام الله عليه حيث أنه هو الكافل الحقيقي لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم  ، فقد كفله بعد وفاة جده عبد المطلب وكان عمره آنذاك ثمانية أعوام ، حتى لقبه أهل مكة بيتيم أبي طالب ، قام سلام الله عليه بأمره وكفالته وشؤونه ، بل كان يفضله على أولاده ويقيه بهم.
 ولو نظرنا لخصائص هذا الرجل العظيم وأفعاله من دون الأدلة والروايات فماذا نرى: 
1- يبيت أولاده مكان فراش الرسول تمويها ويستبدلهم في كل مرة خوفا من أن يصاب ابن أخيه بشيء (أي أنه يضحي بأولاده لحماية هذا الصبي).
2- يضحي بكل ما يملك داعما لرسول الله ودعوته.
3- يدفع أولاده لنصرته وحمايته والوقوف معه.
4- يقف بوجه صناديد قريش وعتادها لأي أمر يتعلق بمحمد صلى الله عليه وآله.
5- قول الرسول صلى الله عليه وآله (والله ما نالت قريش منّي شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب).
 
 كل هذه الشواهد الأخلاقية التي تحلى بها في نصرة الدعوة والرسالة ، والسيرة العطرة التي تعامل بها والسلوك الحسنة التي عمل عليها ، والدعم المعنوي الذي حضي به محمد صلى الله عليه وآله قبل البعثة وبعدها ، ما هي إلا سلوك العارف وأخلاق المتيقن بمعرفة دور هذا الرائد الجديد والداعي القادم ، وهذه السلوك هي سلوك الدين الإسلامي المستمدّة من دين إبراهيم الخليل عليه السلام ، ومعنى ذلك إنه على علم تام بما جاء به هذا النبي الجديد ، وأنه كان يعبد الله ويوحّده على دين إبراهيم عليه السلام ، وهو على موعد مع هذا النبي والدين الجديد ، ولو لم يكن كذلك لتنافى مع أخلاقياته وسلوكه ، كما حدث مع نبينا إبراهيم عليه السلام وعمه آزر ، فعندما نقارن ما حدث هناك وما حدث هنا نجد إنهما متعاكسين ومختلفين تماما ،  والدور الذي قام به ابو طالب كان عن بصيرة وصدق واعتقاد ومعرفة.

أما دلائل إيمانه فكثيرة منها:

• شهادة أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بإيمانه ، ويكفي ذلك.
• كتمان إيمانه حتى يتمكن من الدفاع عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كمؤمن آل فرعون وأصحاب الكهف، وبتعبير الإمام الصادق عليهم السلام: كتموا إيمانهم فأثابهم الله سبحانه مرتين ثواب الإيمان وثواب الكتمان.
• شعره: كان أمير المؤمنين عليه السّلام يعجبه أن يروى شعر أبي طالب وأن يدوّن. وقال : تعلّموه وعلّموه أولادكم فإنّه كان على دين الله وفيه علم كثير [3] ) ، وكما يقال فإن الشعر يعبر عن رؤى صاحبه:

   و الله لن يصلوا إليـــك بجمعـهــم   حتى أوسد فــي التــراب دفينـــا
   فانفذ لأمرك ما عليـــك مخـــافـــة    و أبشر بذاك و قر منــك عيونا
   و دعوتني و زعمت أنك ناصحي    فلقد صـدقت و كنــــت قدما أمينا
    و عرضت دينا قد علمـــت بأنـــه    من خيـر أديـــان البـــريــة دينــا
   لو لا الملامــة أو حــذاري سبــه    لوجدتنــي سمحــا بذاك مبـــــينـا

• تحمله مصاعب دعم الرسالة والصبر على نشرها ، وتضحيته بكل ما يملك من مكانة وجاه وولد.
• تهديده لصناديد قريش في الحادثة المشهورة حيث ساوى رؤوس صناديد قريش كلهم برأس محمد ، وكادت تطير رؤوسهم لولا ظهور محمد صلى الله عليه وآله [4] . 
• تعامله مع أعداء الرسول كأعداء ، وعدم التساهل معهم.
• عدم تفريق زوجة أبي طالب فاطمة بنت أسد سلام الله عليها عنه ، لأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يجيز أن تكون مسلمة تحت يد كافر ..وقد كانت فاطمة بنت أسد من السابقات إلى الإسلام وما زالت تحت يده حتى مات...! ، فكيف يكون أبو طالب كافرا وزوجته مسلمة ؟ فلو كان كذلك لفرق رسول الله بينه وبين زوجته حينما أسلمت.....
• أمر أمير المؤمنين عليه السلام أن يحج عن عبدالله والد رسول الله صلى الله عليه وآله  وعن أبيه أبي طالب عليه السلام ، ولا يحج عن غير المسلمين.
• الحديث المشهور عند السنة ما رواه القاضي الشوكاني: في الحديث القدسي ، أنه قال : نزل علي جبرائيل فقال : إن الله يقرئك السلام ويقول : إني حرمت النار على صلب أنزلك و بطن حملك و حجر كفلك ( والحجر الكافل هو عمه أبي طالب عليه السلام ).
• حزن الرسول وبكاؤه على عمه ، واستغفاره له في عدة مواطن وأحداث مختلفة ، وهل يستغفر رسول أو يبكي على كافر.....؟
• تعامله معه لَمّا قُبض أبا طالب سلام الله عليه: أتى أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام رسولَ الله صلى ّ الله عليه وآله ، فآذَنَه بموته ، فتوجّع لذلك النبيّ وقال: امض يا عليّ فتَوَلَّ غُسْلَه وتكفينه وتحنيطه، فإذا رفعتَه على سريره فأعلِمْني ، ففعل ذلك أميرُ المؤمنين عليه السّلام، فلمّا رفعه على السرير اعترضه النبيّ فَرَقّ له وقال: وَصَلتَ رَحِماً، وجُزِيتَ خيراً؛ فقد رَبَّيتَ وكَفَلتَ صغيراً، وآزَرتَ ونَصرتَ كبيراً. ثمّ أقبل على الناس فقال: أمَا واللهِ لأشفَعنّ لعمّي شفاعةً يَعجَبُ منها أهلُ الثَّقَلَين! [5] .
 عن الإمام الصادق عن آبائه أن أمير المؤمنين علي كان ذات يوم جالساً في الرحبة ، والناس حوله مجتمعون ، فقام إليه رجل فقال: يا امير المؤمنين أنت بالمكان الذي أنزلك الله به وأبوك معذب في النار؟ فقال له علي بن أبي طالب (ع: (مه فض الله فاك، والذي بعث محمداً بالحق نبيا لو شفع أبي في كل مذنب على وجه الأرض لشفعه الله فيهم، أبي معذب في النار وابنه قسيم الجنة والنار؟ ! والذي بعث محمدا بالحق نبيا أن نور أبي يوم القيامة ليطفئ أنوار الخلائق كلهم إلا خمسة أنوار: نور محمد صلى الله عليه واله، ونوري، ونور الحسن، ونور الحسين، ونور تسعة من ولد الحسين، فان نوره من نورنا خلقه الله تعالى قبل أن يخلق آدم عليه السلام بألفي عام [6].
نسأل الله أن يشملنا بشفاعته في الدنيا والآخرة.

1-بن أبي الحديد المعتزلي.
2- نقله ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : ج14/69 ، ط دار إحياء الكتب العربية .
3- السّيّد الجليل أبوعلي مختار بن معد الموسوي في كتاب الحجّة على الذّاهب إلى تكفير أبي طالب ، بإسناده إلى أبي الفرج الاصفهاني ، قال : حدّثني ابو محمّد هارون ابن موسى ، قال : حدّثنا ابو الحسن محمّد بن عليّ بن المعمّر الكوفي ، قال : حدّثنا عليّ بن احمد بن مسعدة بن صدقة ، عن عمّه ، عن أبي عبدالله جعفر بن محمّد الصّادق عليهما السلام .
4-أخرج الفقيه الحنبلي إبراهيم بن علي بن محمد الدينوري في كتابه نهاية الطلب بإسناده عن عبد الله بن المغيرة بن معقب، قال: فقد أبو طالب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فظن أن بعض قريش اغتاله فقتله، فبعث إلى بني هاشم فقال: يا بني هاشم أظن أن بعض قريش اغتال محمداً فقتله، فليأخذ كل واحد منكم حديدة صارمة وليجلس إلى جنب عظيم من عظماء قريش، فإذا قلت: أبغي محمداً. قتل كل منكم الرجل الذي إلى جانبه. وبلغ رسول الله جمع أبي طالب وهو في بيت عند الصفا، فأتى أبا طالب وهو في المسجد، فلما رآه أبو طالب أخذ بيده ثم قال: يا معشر قريش، فقدت محمداً فظننت أن بعضكم أغتاله فأمرت كل فتى شهد من بني هاشم أن يخذ حديدةً ويجلس كل واحد منهم إلى عظيم منكم، فإذا قلت: أبغي محمداً قتل كل واحد منهم الرجل الذي إلى جنبه، فاكشفوا عما في أيديكما يا بني هاشم فكشف بنو هاشم عما في أيديهم فنظرت قريش إلى ذلك فعندها هابت قريش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أنشأ أبو طالب: ألا أبلغ قريشاً حيث حلت وكل سرائر منها غرور
5-إيمان أبي طالب ص 25 ـ 26 .
6-بحار الأنوار ج35 باب3 ص69