قضايانا: غربة أم اغتراب

 

قضايانا: غربة أم اغتراب

"خلية حزب الله، الثلث المعطل، مزارع شبعا، ما بعد حيفا".. مفردات باتت متداولة في قاموسنا السياسي، وتتخذ لها مقاعد في مساجلات مجالسنا.

"إيران بعد أزمة الانتخابات: أكثر ضعفاً أم أكثر قوة؟، البرنامج النووي، محطة بوشهر، أحمدي نجاد شجاعة أم تهور؟".. هي الأخرى تطفو على تحليلاتنا، وتحوم حول موائدِ حديثنا، هذا إن لم تجد لها أرائك في خطبنا الدينية.

"الحزبان الديمقراطي والجمهوري، محور الشر ودول الاعتدال، ديك تشيني والصفقات، أوباما والتغيير".. أليست مفردات أليفة ومألوفة في عالمنا اليوم؟

إن هذه الأمثلة بمثابة استقراء خاطف لبعض ما يتداول ويعاد تدويره في ذهنيتنا السياسية، إذ تجد البعض منا أصبح متخصصاً مدمناً في قضايا العراق وأطيافه، وبات يدرك أدق الخيوط الفاصلة بين حزب الدعوة والمجلس الأعلى، ويتشرنق أكثر ليستنبط الخصائص الفكرية لخطب الشيخ جلال الدين الصغير، والقاموس الخطابي لدى الدكتور طارق الهاشمي. أما إن وجهتَ تفكيره نحو الأوضاع الحالية في مجتمعه، والتي تعصف ببني لحمته بين عشية وضحى، تراه أمياً، تائهاً، حائراً.

إن منشأ هكذا حال، لا يتأسس عبر وجود أعراض (غربة سياسية) وحسب، والتي تنتج من الزخم الإعلامي الذي ضخّم زوايا وقزّم أخرى، وكانت قضيتنا من أخوات الأخرى، وإنما له منحى مختلف ينطلق من (الاغتراب السياسي)، المتمثل في الإرادة الصرفة التي يسلطها الفرد نحو الاهتمام بـدار الغريب وقُرَاه، وينسى أو يتناسى دار جاره القريب وبالتالي داره هو.

ومن الضروري هنا أن نشير إلى أن بلاد الإسلام، بل وبلاد العالم بأسره تهمنا، وتتمخض بعض سياساتها في رحم قضايانا، وتساهم تبعاً لذلك في تشكّلها ومَنتَجتها، غير أنه من المعيب أن يدرك السائق الماهر الشوارع المحيطة بـ(الهايد بارك) البريطانية، وكل المنافذ المطلة على (نهر التايمز)، بينما يصبح أخرس أعمى عن شوارع بلدته وموطئ قدمه.

هذا تماماً حال كثير منا في قضايانا الخاصة الملحّة، فهو محلل حذق –أو هكذا يتصوّر- في الشأن الإيراني، وقارئ محنَّك لتمايزات الأحزاب الفلسطينية، وبارع في التنقيب عن دور دول الجوار في رسم خارطة العراق السياسية، أما ما يخص أبناء جلدته فهو (غريب)، بل الأصح (مغترب).

ولعل أهم الأسباب التي تدفعه للعزف خارج جوقته الأم، وامتطائه حيناً هودج (الاغتراب المحلي) عبر اقتصار معرفته على ما يدور في المجتمعات الإسلامية دون بلده الأم، وصعوده تارة أخرى مطية (الاغتراب الخارجي) عبر إدراكه لمعادلات الآخر الأجنبي فقط، يعود لكونهما لا يحمّلانه المسئولية، وكذا يحميانه من تبعات تحليلاته الخاطئة، ناهيك عن كون القضايا التي تَخصَّص بها قضايا معقدة متشابكة تثير النهم السياسي في فك إجمالها، وتبيين مبهمها، وسهل الإلمام بها في الأول والأخير. أما مسائلنا فمصابة بـ(عُسْر المعلومة) جراء الخنق الإعلامي، وشح التغذية المعرفية الرصينة.

غير أن المثير للدهشة بذل بعض المغتربين السياسيين جهدهم، ووافر طاقاتهم في الاستجابة لأي تَحرُّك تباركه أو تدعو له الزعامات الشعبية -البعيدة جغرافياً- عبر شجب ميداني، أو احتجاجٍ ما، وهي صورة مشرقة –إن كانت القضية عادلة- تمثل انسجاماً للمشاعر الحرة مع المستضعفين، إلا أن هذه الصورة سرعان ما تتحطم وتتهاوى عندما لا يوازيها اكتراث نحو القضية الذاتية التي تقرع بابه مباشرة.

ولعل هذا الداء مستشرٍ اجتماعياً –قبل أن يكون سياسياً- منذ عدة أزمنة، ومن هنا نفهم تهكّم آبائنا الرمزي حول (عين عذاري)، بينما بتنا اليوم في حقل السياسة نمتلك عشرات عيون عذاري!

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
محمد حسين
[ ام الحمام - القطيف ]: 26 / 8 / 2009م - 12:14 ص
الاستاذ محمد ال زايد بعد السلام تحية إجلال و إكبار لهذا الفكر النير و المنطق القويم لقد استثارني قلمك أيما إثارة, فوجدت نفسي مرغما على التعليق (لأول مرة في موقع الكتروني) نعم هذا مانسميه طرح فكري للأسف أكثر من يسمون بالمثقفين في مجتمعنا هم مثقفين فضائيات يركبون موجاتها ويرددون أقوالها وكأن على اعينهم غشاوة أو كأنما يجف الحبر من أقلامهم حينما يكون الحديث عن القضايا الداخلية بل لربما لايحركون ساكنا لها و بالعكس تماما حينما تكون المصيبة في مالطه فجميع جوارحهم تهب لإغاثة المظلوم و صد العدوان بجميع الوسائل و ليس المظاهرات فقط. كنت أتمنى منك الاسهاب خاصة في المقطع الأخير عن المغتربين السياسيين. أشكرك مرة أخرى على هذا الطرح الرائع وما أخشاه أن يرى البعض أن ماتطرحه هو الغريب و ليس العكس.
كاتب وقاص من العوامية - موظف بكلية طب الأسنان بجامعة الملك سعود- فني تركيبات.