أنا في الجنة وأنت في النار !

#c00000 ; FONT-SIZE: 16pt; mso-ascii-font-family: Calibri; mso-hansi-font-family: Calibri" lang=AR-SA> #222222" dir=ltr> 

#222222 ; FONT-SIZE: 13pt" lang=AR-SA>كان يرمق الركاب بنظرات خاطفة من موقعه بمؤخرة الطائرة قبيل أن تغادر البوينج الضخمة إحدى مطارات أوروبا ، والمتجهة إلي جنوب شرق آسيا ، في رحلة تستغرق نصف يوم على الأقل ، وما إن استوت وسط الأفـق ، حتى خرجن المضيفات الحسناوات من مخادعهن ، وقدمن  المشروبات الروحية والوجبات على الركاب ، فأخرج اليهودي المتشدد والمعتمر القلنسوة كتاب التلموذ المقدس لدى اليهود ، وبدأ يقرأ بعض أسفاره وآياته بالعبرية ، وبينما هو مسترسل ،  قاطعه تجشأ الراكب الذي يجلس خلفه ، فنظر إليه بسخرية ووجه عبوس ، فطأطأ رأسه متمتماً يكلم نفسه ومتوعداً بالنار والعذاب لكل الركاب من الأديان الأخرى الذين خلقهم الله عبيداً لليهود ، وإن الهلاك لكل البشر! وإن كل الخلق إلي مزبلة جهنم باستثناء اليهود شعب الله المختار ، وكلما وقعت عيناه على راكب ، قال هذا في النار وذاك في قعر جهنم ، وبعد انقضاء نصف الرحلة تقريباً ، شعر الركاب بمطبات هوائية شديدة لم يشهدوها من قبل ، وإذا بقرقعة مخيفة سمعها كل الركاب مصدرها جناحي الطائرة ، فأعلن قائد الطائرة بكل صراحة  تعرض الجناح الأيسر إلي عطب يمنعهم من الدوران أو الالتفاف ، ولهم فقط فرصة الهبوط ، وإنهم الآن معلقون بين الأرض والسماء على ارتفاع يزيد على أربعة وعشرين ألف قدم ، فأضطر أن يتجه بسرعة إلي أقرب مطار كي يتم الهبوط فيه ، وإنه أتصل بالجهات المعنية بذلك ، وإن سبب المطبات القوية هي المنطقة الجبلية التي يمرون بها الآن فوق نيبال ، فأصاب الهلع والخوف كل الركاب ، الكبير قبل الصغير ، وبكت النسوة وصرخ الأطفال ، وجلست المضيفات بعد إرجاع عربات الخدمات ، وُطلب من الجميع التزام الصمت ، واحتضان الوسائد الصغيرة ، فأصبحت المصيبة بين المطبات الهوائية والأصوات التي تخرج من الأجنحة ، ومحاولة من الطيار الخبير أن يستعيد السيطرة على الطائرة ، وهم الآن في هبوط منحدر ، فبكى الرجال أيضاً ، فالطائرة مليئة بعدد كبير من الركاب ، ومن كل الجنسيات ، والأديان ، فبكى اليهودي بحرقة وهو يدعوا الله بنور موسى ومنزلة داوود ويعقوب وببركة التلموذ أن ينجيه . #222222" lang=AR-SA>

#222222 ; FONT-SIZE: 13pt" lang=AR-SA> لقد تعالت الأصوات ، واختلطت الصرخات ، وتعانقت الصلوات ، فسمع وشاهد اليهودي صلاة ودعاء معظم الركاب وبكل اللغات، وكلاً دعا ربه بما يؤمن ويعتقد ، فظهرت الأديان بكل إشكالها ومذاهبها وأفكارها ، وكشف كل راكب بما يؤمن ويحفظ من كلمات دينية ، وسأل كلاً منهم حسب فكره ودينه أن ينجيه الله ، وبلغت ذروة الدعاء أعلى درجات وكلمات التوسل ، ولم لا ! فإنها ساعة الصفر! وهي مسألة حياة أو موت ! ( ويا روح ما بعدك روح  كما يقال ) ، والبحث جارٍ عن أي سبب لإنقاذهم ، فالقشة أمل الغريق ومطلبه ، وهم في صراع بين كفتي الوقت والموت ، والطائرة بحالة هبوط مائل نحو الأرض التي ستبتلعهم . #222222" lang=AR-SA>

#222222 ; FONT-SIZE: 13pt" lang=AR-SA> من الصعب وصف تلك اللحظات ، أو ترجمة إحساس الخوف بكلمات ، إلا بوجود القارئ معهم بالطائرة ، فقد نسي كل غني ماله وعياله ، ونسي كل وسيم صفاته ، ونسي كل راكب جنسيته ولون جوازه ، ونسوا أشكال بيوتهم ، وفخامة سياراتهم ومناصبهم ، فالمسلمون السنة يدعون الله وينذرون له ، والمسيحيون يصلوّن بأسم الأب ويسوع وأمه أن ينقذوهم وينجوهم ، والمسلمون الشيعة يطلبون الله بحق محمد وآل محمد أن يكشف عنهم الله السوء ، والجالية الهندوسية تدعوا وتصلي لكريشنا وأخرى تدعوا ساي بابا الرب ، والبوذيون يدعون الإله بوذا بخوارقه وهيمنته الأربع  إلا ما أوصلهم إلي بر الأمان . #222222" lang=AR-SA>

#222222 ; FONT-SIZE: 13pt" lang=AR-SA> في الأثناء ، أخرج بعضهم ورقة لكتابة وصيته ، وسجل بعضهم صوته بالجوال ، وأصوات التشهد وذكر الله تسمع هنا وهناك بين المسلمين ، والطائرة ضجت بالصراخ ، وكل ما ذكرناه من وصف يتكرر ويزداد مع سماعهم صوت الجناح وهو يتأرجح ويتصافق وكأنه سينكسر وستسقط الطائرة . في الأثناء ظهرت حقيقة ، وهي إنهم جميعاً مشتركون بطلب واحد ، وهو ( النجـاة ) ووصلنا إلي نتيجة إنهم بشر، تأتيهم لحظات ضعف يعودون فيها إلي إنسانيتهم وتكوينهم ، وإنهم فقراء ومحتاجون إلي الرب الذي يعطي ويمنع . #222222" lang=AR-SA>

#222222 ; FONT-SIZE: 13pt" lang=AR-SA> هبطت الطائرة بعد جهد جهيد في إحدى المطارات القريبة ، وهي مقاطعة أسيوية فقيرة هندوسية ، إذ وضعت بالمدرج المتواضع والمتهالك رغوة كثيفة ، فنزلت عليها الطائرة ومع هبوطها نزلت أرواح الركاب من الخوف ! وأخيراً والحمد لله تزحلق الجميع على سلم الطوارئ البالوني بسرعة ، فأستقبلهم أهالي القرية المجتمعون بالتصفيق الحار، والماء والأحضان والدموع ، وتعانق كل الركاب وهم يبكون غير مصدقون أنهم مازالوا أحياء، فرفعوا الكابتن فوق الأكتاف ، وقبلوا رأسه ويديه ، وحينها تمثلت مكارم الأخلاق في الإنسانية فقط بين الابتسامة والدمعة ، واليهودي لايزال يقبل الكابتن ويشكره على حسن تصرفه ، وفي النهاية رجع كل راكب إلي وطنه وأهله ، وهو يؤمن ويعتقد إن الذي أنقذهم هو ربه الذي دعاه ، وهو مقتنع بذلك ، وعلم الجميع أن لا أحد وكيل الله على عباده ، وأنه ليس المسؤول عن الخلق ، وأن الحياة والموت بيد الله ، وإن الجنة والنار ليستا ملكاً لأحد يوزعها على من يشاء . #222222" lang=AR-SA>

#222222 ; FONT-SIZE: 13pt" lang=AR-SA> أعذرني أخي القارئ ، فقد شرد ذهني ونسيت إخباركم إن قائد الطائرة من دول أمريكا الجنوبية ، ويؤمن بأن الأديان من صنع الإنسان ، وأن الطبيعة صنعت نفسها صدفة ، وقد تطورت بفعل التعرية الزمنية ، ومازال قائد الطائرة مرفوعاً على الرؤوس . #222222" lang=AR-SA>

روائي وباحث اجتماعي