حب ليس كالحب

 

 

أسمى مراتب الحب حب خالق الحب. وطبيعي أن المرتبة الأسمى لا ينالها سوى الأوحدي من الناس، لأنها تحتاج إلى نفس متسامية عن الصغائر، مشغولة بالعروج لمعدن العظمة، مشغوفة بالأنوار القدسية، صاعدة للكمال، هائمة بالجمال.

ولأن أسمى الحب مراتب أيضا، تختلف باختلاف المعرفة، فإن سيرة الحب تختلف من محب لآخر. وإذا كان المحب سيدا من سادات المحبين العارفين، فسيكون الحديث عن سيرته في الحب ذا نكهة مزاجها من تسنيم.

الإمام زين العابدين علي بن الحسين نموذج إنساني فريد في ملحمة الحب المقدس. في مناجاة المطيعين يخاطب محبوبه داعيا: اللهمّ احملنا في سفن نجاتك ومتّعنا بلذيذ مناجاتك وأوردنا حياض حبّك، وأذقنا حلاوة ودّك وقربك.

وفي مناجاة المريدين يقول: ولقاؤك قرّة عيني، ووصلك منى نفسي، وإليك شوقي وفي محبّتك ولهي وإلى هواك صبابتي ورضاك بغيتي.

وفي مناجاة العارفين يتلذذ بذكر الحب: ما أطيب طعم حبّك، وما أعذب شرب قربك. ويخصص مناجاة للمحبين يمكن أن نسميها سورة الحب، يدعو فيها: يا منى قلوب المشتاقين، ويا غاية آمال المحبين، أسألك حبك وحب من يحبك وحب كل عمل يوصلني إلى قربك، وأن تجعلك أحب إلي مما سواك، وأن تجعل حبي إياك قائدا إلى رضوانك.  ومع كونه حبا كله، فإنه يشعر بالتقصير دائما في حق محبوبه، فيسعى للمزيد من الحب.

ففي الرواية أن الإمام الباقر دخل على أبيه زين العابدين (عليه السلام) فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد، وقد اصفر لونه من السهر، ورمضت عيناه من البكاء، ودبرت جبهته وانخرم أنفه من السجود، وورم ساقاه وقدماه من القيام في الصلاة.

تقول بقية الرواية بلسان الإمام الباقر: فلم أملك حين رأيته بتلك الحال البكاء، فبكيت رحمة له، وإذا هو يفكر، فالتفت إلي بعد هنيئة بعد دخولي، وقال: يا بني أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة علي بن أبي طالب، فأعطيته فقرأ منها شيئا يسيرا، ثم تركها من يده تضجرا، وقال: من يقوى على عبادة علي بن أبي طالب.

رواية أخرى في نفس السياق يرويها الزهري وتحتاج لقراءة متأنية دقيقة، يقول نصها على لسان الزهري: دخلت مع علي بن الحسين ( عليهما السلام ) على عبد الملك بن مروان قال : فاستعظم عبد الملك ما رأى من أثر السجود بين عيني علي بن الحسين، فقال: يا أبا محمد لقد بان عليك الاجتهاد، ولقد سبق لك من الله الحسنى، وأنت بضعة من رسول الله ، وقريب النسب وكيد السبب، وإنك لذو فضل عظيم على أهل بيتك وذوي عصرك، ولقد أوتيت من العلم والفضل والورع ما لم يؤته

أحد مثلك ولا قبلك، إلا من مضى من سلفك، وأقبل يثني عليه ويطريه، قال: فقال علي بن الحسين: كلما ذكرتَه ووصفتَه من فضل الله وتأييده وتوفيقه، فأين شكره على ما أنعم، إلى أن قال: والله لو تقطعت أعضائي وسالت مقلتاي على صدري لن أقوم لله جل جلاله بشكر عشر العشير من نعمة واحدة من جميع نعمه التي لا يحصيها العادون، ولا يبلغ حد نعمة منها علي جميع حمد الحامدين، لا والله أو يراني الله لا يشغلني شيء عن شكره وذكره في ليل ولا نهار ولا سر ولا علانية، لولا أن لأهلي علي حقا ولسائر الناس من خاصهم علي حقوقا لا يسعني إلا القيام بها حسب الوسع والطاقة حتى أؤديها إليهم، لرميت بطرفي إلى السماء وبقلبي إلى الله، ثم لم أردهما حتى يقضي الله على نفسي وهو خير الحاكمين، وبكى ( عليه السلام ) وبكى عبد الملك.

أين نحن من هذا الحب؟!

دمتم بحب .. جمعة مباركة .. أحبكم جميعا.
 

شاعر وأديب