هل برزن من الخدور؟

 


انتشرت في الآونة الأخيرة عبر وسائل #التواصل #الاجتماعي ، كما هي العادة مع قرب #شهر #المحرم الحرام، إذ تعود نفس #الشبهات لتفرز بقوالب وأشكال وأذواق متغايرة، والتي قد أفرد لها العلماء مقالات وكتب، عدا الأبحاث التفصيلية والتحليلية والموضوعية، المقننة لكل شبهة تم إيرادها.

إلا أنه ومع كل هذا الزخم يتم التعاطي مع التراث بممارسات طائشة محسوبة بشكل أو بآخر على التشيع، ومن أبرزها الإشكال الوارد حول زيارة الناحية المقدسة..
وهو ما ذهب إليه البعض من الحكم عليها بـ(الوضع) لاحتوائها على بعض الألفاظ التي - بحسب استحساناتهم - :

• مخالفتها العفة والحشمة،ويعني بذلك ".. برزن من الخدور ، ناشرات الشعور على الخدود ، لاطمات الوجوه..".
 مخالفتها الأمر الذي أمر بها المولى أبي عبد الله صلوات ربي عليه الفاطميات وعلى رأسهن العقيلة صلوات ربي عليها " يا أخية إني أقسمت فأبري قسمي ، لا تشقي علي جيبا ، ولا تخمشي علي وجها ".

 كما ذكرت مسبقاً قد تصدى كثيراً من الفضلاء والعلماء لمثل هذه الدعاوى، إلا أنه لفت انتباهي في أحد الكتب حين تطرق لرد هذه الشبهة قال:

"وأما بالنسبة لاستبعاد أن تكون النساء قد خرجن من الخدور ناشرات الشعور، كما ورد في زيارة الناحية المقدسة والتشكيك في الزيارة استنادا إلى ذلك ، فلا يصلح أساسا للتشكيك ، وذلك لأن ظروف الحروب الضارية ربما توجد حالة من الذعر والإندهاش ، تؤدي بالنساء أن يخرجن على حالة لا يخرجن عليها في الظروف العادية . والنساء اللواتي حضرن كربلاء من مختلف القبائل العربية، وقد يكون فيهن نساء يسرع إليهن الخوف ، ونساء أكثر صلابةً وثباتا، فلم يكن كل من حضر من النساء في كربلاء في مستوى زينب عليها السلام من حيث المعرفة والصلابة والثبات.". انتهى النقل.

أقول والله أعلى وأعلم ..

البناء على أن " ظروف الحروب الضارية" قد تؤدي إلى حالة من "الذعر والإندهاش" وقد تتسبب في خروج النسوة في حالة لا يخرجن عادة عليها هو قابل أن يُشمّ منه أن خروجهن كان بحالة خلاف الحشمة والعفة أو أن ذعرهن واندهاشهن وجزعهن أخرجهن من حق - لا سمح الله -، وهو استحسان لا قيمة له إذا لم يقترن بدليل، بل إن من شهدنَ كربلاء كنّ قمة القمم في الصبر والصلابة والثبات، ولربما ذهب الكاتب لهذا الرأي احتمالاً وتسرعاً قِبَال ما ورد من روايات لا تستلزم مثل هذا الاحتمال - لا طعناً في شخصه أو مكانته العلمية - بل ورد في سياق النص - والمعذرة يا صاحب الزمان - ".. قد رشح للموت جبينك، واختلفت بالانقباض والانبساط شمالك ويمينك، تدير طرفا خفيا إلى رحلك وبيتك، وقد شغلت بنفسك عن ولدك وأهلك، وأسرع فرسك شاردا، والى خيامك قاصدا، محمحما باكيا.

فلما رأين النساء جوادك مخزيا ، ونظرن سرجك عليه ملويا ، برزن من الخدور ، ناشرات الشعور على الخدود ، لاطمات الوجوه ، سافرات، وبالعويل داعيات ، وبعد العز مذللات ، والى مصرعك مبادرات والشمر جالس على صدرك..."

فجميع الأحداث الواردة عن ما حل بالنسوة بحسب ما وصفه الكاتب من "الذعر والاندهاش" ترده إنما حصل بحسب السياق الوارد قبل شهادة المولى صلوات ربي عليه،  ولعل الأسباب التي دعت الكاتب لهذا الاحتمال الرواية الواردة بسند للإمام زين العابدين عليه السلام فيما نقله عن المولى الإمام الحسين عليه السلام أنه قال : يا أختاه ! اتقي الله وتعزي بعزاء الله ، واعلمي أن أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون، وأن كل شئ هالك إلا وجه الله الذي خلق الخلق بقدرته، ويبعث الخلق ويعودون ، وهو فرد وحده، أبي خير مني، وأمي خير مني، وأخي خير مني، ولي ولكل مسلم برسول الله صلى الله عليه وآله أسوة. فعزاها بهذا ونحوه وقال لها: يا أخية إني أقسمت فأبري قسمي ، لا تشقي علي جيبا ، ولا تخمشي علي وجها ، ولا تدعي علي بالويل والثبور إذا أنا هلكت.

ربما لم يلتفت الكاتب للخاتمة ( إذا أنا هلكت) ..

نستسقي مثل هذا اللفظ في رواية السيد ابن طاووس:

"فسمعت زينب بنت فاطمة عليه السلام ذلك فقالت : يا أخي هذا كلام من أيقن بالقتل، فقال، عليه السلام نعم يا أختاه فقالت زينب وا ثكلاه ينعى الحسين عليه السلام إلى نفسه قال : وبكى النسوة ولطمن الخدود وشفقن (شققن) الجيوب وجعلت أم كلثوم تنادي وا محمداه ، وا علياه، وأماه، وا أخاه، وا حسيناه، وا ضيعتنا بعدك يا أبا عبد الله.

قيل فعزاها الحسين وقال لها : يا أختاه تعزى بعز الله فإن سكان السماوات يفنون وأهل الأرض كلهم يموتون وجميع البرية يهلكون ثم قال : يا أختاه يا أم كلثوم ، وأنت يا زينب وأنت يا فاطمة وأنت يا رباب انظرن إذا أنا قتلت فلا تشققن على جيبا ولا تخمشن على وجها ولا تقلن هجرا .

فالأمر ناظر إلى " إذا أنا قتلت " ولم ينظر لما قبله كما هو واضح من الرواية.

وما يؤكد ذلك ما ورد: ..عن خالد بن سدير أخي حنان بن سدير قال : سألت أبا عبد الله ( عليه السلام ) عن رجل شق ثوبه على أبيه أو على أمه أو على أخيه أو على قريب له، فقال : لا بأس بشق الجيوب ، قد شق موسى بن عمران على أخيه هارون ، ولا يشق الوالد على ولده .... ، ولا شئ في اللطم على الخدود سوى الاستغفار والتوبة ، ولقد شققن الجيوب ولطمن الخدود الفاطميات على الحسين بن علي (عليهما السلام) ، وعلى مثله تلطم الخدود وتشق الجيوب".

وفي الرواية الأخيرة لم يكن ناظر الفعل لزمن وقوعه، بقدر ما هو ناظر لأصل الفعل، فقد يكون قبل الشهادة وقد يكون بعدها، بل قام الدليل على وقوعه قبل شهادة المولى الحسين صلوات ربي عليه، من شقهن لجيوبهن ولطمهن لخدودهن، وقابليته أن يكون منصرف كذلك لما بعد الشام، كما ورد في السِيَر بعد عودة العترة الطاهرة بمعية الإمام السجاد صلوات الله عليه إلى المدينة وقبل دخولهن..

"ثم قلت : هذا علي بن الحسين مع عماته وأخواته قد حلوا بساحتكم ونزلوا بفنائكم، وأنا رسوله إليكم أعرفكم مكانه، فما بقيت في المدينة مخدرة ولا محجبة إلا برزن من خدورهن مكشوفة شعورهن مخمشة وجوههن، ضاربات خدودهن، يدعون بالويل والثبور، فلم أر باكيا أكثر من ذلك اليوم ولا يوما أمر على المسلمين منه" .

وعليه فيكون خروجهن عليهن السلام يوم عاشوراء لمصرع المولى صلوات ربي عليه وما فعلنَه من أفعال واردة في زيارة الناحية المقدسة هو قبل شهادته والأمر والقسم كان ناظر لزمن معين لا ينصرف لغيره لا قبلاً ولا بعداً بل ويستحيل ربطه بالصبر والصلابة والمعرفة.

إذ أن ما أيدته الرواية "وعلى مثله تلطم الخدود وتشق الجيوب" أنه فعل مستساغ، ولست أهلاً أن أقول مثلاً بتشخيص حكمه أهو مستحب أم أمر آخر .

بل وأكثر من ذلك ما ورد .. عن أبي هاشم الجعفري قال : خرج أبو محمد عليه السلام في جنازة أبي الحسن عليه السلام وقميصه مشقوق ، فكتب إليه ابن عون : من رأيت أو بلغك من الأئمة شق قميصه في مثل هذا ؟ ! فكتب إليه أبو محمد عليه السلام  : "يا أحمق ، وما يدريك ما هذا ؟ ! قد شق موسى على هارون" .

إذاً فَقَسَم الإمام صلوات ربي عليه وأمره ناظر إلى زمن معين، إذ أنه لو لم تكن رباطة الجأش متمثلة في الفاطميات، وعلى رأسهم الصديقة العالمة غير المعلمة، والفهمة غير المفهمة زينب عليها السلام لَضِعنَ بنات الرسالة.

فأصل الفعل ( شق الجيب ولطم الخد ) في هذا المورد لا اشكال ولا شبهة فيه بحسب ما تقدم، إلا أن الشبهة بقيت منحصرة في الهيئة التي خرجن عليها بنات الرسالة، وهل كانت قابلة لتفسيرها أن بعضهن خرجن بما تضوره أحد الفضلاء المذكور أعلاه، أو من أرادوا وضع الرواية الشريفة لزيارة الناحية المقدسة لأنها تتخالف مع استحساناتهم !؟

جواب ذلك كان جواباً لمسألة فقهية وُجّهت لمكتب سماحة آية الله العظمى المرجع الديني السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله الشريف :

والسؤال كان بخصوص : الرواية القائلة بخروج الهاشميات حاسرات الرؤوس وشققن الجيوب على أبي عبد الله الحسين سلام الله عليه في يوم عاشوراء صحيحة أم لا؟

فكان جواب مكتب سماحته: الخبر موجود في زيارة الناحية، غير أن سماحة السيد المرجع دام ظله الوارف يرى أن نشر الشعر كان عادة عربيّة جارية عند النساء إذا فقدّن عزيزاً عليهنّ، فيبقين فترة من الزمن محزونات لمصابه، لا يقاربْنّ حتى البسمة وكانت العادة عندهّن انهّن يفتلن ضفائرهنَّ في حالات عاديّة، فإذا أصبن بمصيبة مفجعة، فتحن الضفائر حتى ينتشر الشعر حولهنّ مع رعاية الستر والحجاب كعلامة لشدّة المصيبة، وليس المراد من العبارة كما قد يتصوّر بعض الناس أن المخدّرات خرجّن من الستر ورؤوسهُنّ مكشوفة والعياذ بالله، لأن التعبير: (ناشرات الشعور) وليس كاشفات الشعور.

وهو ما يعد الراجح لعدم تضارب الروايات ومضامينها إذ لم يصدر بها ما من شأنه مخالفة شرعية أو عقدية، بل على الخلاف لو تأملنا من حاجتنا الواقعية للإرتباط بساحة القداسة المتمثلة في العترة الطاهرة والجزع والهلع على ما حل بهم صلوات ربي وسلامه عليهم.

صلى الله عليك يا أبا عبد الله، صلى الله عليك يا أبا عبد الله، صلى الله عليك يا أبا عبد الله، السلام عليك وعلى الأرواح التي حلت بفنائك، عليك مني سلام الله أبداً ما بقيت وبقي الليل والنهار، السلام على الحسين وعلى علي بن الحسن وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين الذين بذلوا مهجهم دون الحسين عليه السلام.

1- زيارة الناحية الشريفة - المروية عن صاحب الأمر عليه السلام وعجل الله تعالى فرجه الشريف - المزار- محمد بن جعفر المشهدي
2- الإرشاد - للشيخ المفيد ص94
3- اللهوف في قتلى الطفوف - للسيد ابن طاووس
4- وسائل الشيعة - الحر العاملي - ج22 ص402
5- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج45 ص148
6- وسائل الشيعة - الحر العاملي - ج3 ص274
7- http://goo.gl/7cKasW
مصم جرافيك ومدون