كذب الموت فالحسين مخلد


كذب الموت فالحسين مخلد ** كلما أخلق الزمان تجدد

هكذا صدح أحد الشعراء الذين عرفوا وفهموا خلود ثورة وملحمة سيد الشهداء مولانا أبو عبدالله الحسين عليه السلام، وبهذا البيت كانت بداية قصيدته. نعم، كذب الموت، فالحسين عليه السلام لم يمت، ولم يفارق الدنيا، بل بعروج روحه المقدسة إلى خالقها عاش الحسين عليه السلام، وبصعود روحه الشريفة إلى جوار روح جده وأمه وأبيه وأخيه صلوات والله وسلامه عليهم أمتد ذكر الحسين عليه السلام وأصبح بهذا خالدا أبد الدهر. ولما رمى الحسين عليه السلام بدمه الشريف يوم العاشر من المحرم كان البقاء السرمدي والخلود الأبدي لهذا الإنسان المقدس الذي قال يوم العاشر من المحرم: "يا رب إن كان هذا يرضيك، فخذ حتى ترضى".

 إن هذا الخلود والبقاء لثورة الحسين قد حير الكتاب والمفكرين واصحاب الثورات الكبيرة، فلو عدنا إلى الوراء لرأينا أن الثورة الوحيدة التي لا يزال العالم كله يتذكرها في كل عام هي ثورة الإمام الحسين ، على الرغم من أن عددا كبيرا من الثورات قد قامت وانتهت بعد فترة وجيزة. فنرى ثورة المختار الثقفي للثأر من قتلة سيد الشهداء علبه السلام، وثورة زيد الشهيد،وثورة الحسين بن علي صاحب فخ، وثورة العباسيين ضد الحكم الأموي والتي رفعت شعار "الرضا من آل محمد". أمافي العصر الحديث فنرى ثورة نابليون بونابرت، ثورة غاندي في الهند ضد الحكم البريطاني، ثورة مصر في عام 1953، والثورة الإسلامية في إيران وغيرها. كل هذه الثورات، بل وأكثر مما ذكرته، أفل نجمها، وأنطفأ وهجها بعد سنوات قليلة من انتهاءها، إلا ثورة الحسين عليه السلام فأن نجمها يزداد سطوعا كل عام، ويزداد بل ويتضاعف عدد الملتحقين بركبها كل عام.

 فما السر اذا؟، ولماذا هذا الخلود والبقاء وقد مر على هذه الواقعة زهاء 1400 عام؟ولماذا يتوقف الناس عن اتباع الثورات ويتوقفون عن التفاعل معها إلاثورة الحسين عليه السلام، فإن إسمه رغم كل الحروب التي جرت لتهميشه وكل الأفكار المضادة التي نشأت لمحاربة فكره، فإن اسمه وفكره ومنهجه لايزداد إلاعلواً وشموخا. إن لهذا الشموخ والرفعة والمكانة الخاصة لثورة سيد الشهداء عليه السلام أسباب وعوامل عديدة ويمكن أن نختصرها في ثلاثة عوامل رئيسية سوف نتحدث عنها تباعا.

 العامل الأول الذي ساهم في إبقاء النهضة الحسينية إلى يومنا هذا،هو الهدف من هذه النهضة، حيث يظهر لنا جليا أن خروج الإمام الحسين عليه السلام ضد حكم بني أمية الظالم لم يكن من أجل المنافسة على حكم البلاد الإسلامية أو من أجل الحصول على المال أو الجاه أو غيرها من فضول العيش، بل كان من أجل إعادة النظام إلى حياة الأمة الإسلامية وإعادة الشريعة الإسلامية إلى ما كانت عليه في أيام جده رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وأبيه أمير المؤمنين عليه السلام. وفي هذا يقول الإمام الحسين عليه السلام: "ألّلهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان، ولا التماساً من فضول الحطام، ولكن لنري المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك" ]بحار الأنوار ج 97 ص 80[.

 وبتنا نرى أن نظام بني أمية قد غير الكثير من معالم الإسلام وضربت بأحكامه عرض الحائط، فقد جعلوا الحكم والخلافة ملكا عضوضا يتناقلونها كسروية هرقلية، وساهمت في قتل العديد من المسلمين، واختلقت العديد من الروايات على لسان النبي صلى الله عليه واله وسلم، وأعطت سياستها هالة من القدسية وربطتها بالشريعة المقدسة، فحرمت الخروج على الحاكم الظالم حيث رووا عن النبي صلى الله عليه واله وسلم :"يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس؛ قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع الأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، فاسمع وأطع". ]صحيح مسلم: ج 3 ص 1481 ح 1854 و ص 1476 ح 1847[. وغيرها من الروايات والاحاديث التي أعطت لحكم بني أمية هالة من القداسة.

 ولهذا السبب كان خروج الإمام الحسين عليه السلام في تلك الثلة المؤمنة لكي يعي الجميع أن حكم بني أمية ما هو إلا حكم ظالم لا يمت إلى الإسلام بصلة، وأن على جميع الأمة الإسلامية أن تسعى سعيا حثيثا لمحاربة هذه الطغمة الظالمة التي أرادت نسف قيم ومعالم الإسلام المحمدي الأصيل.

 العنصر والعامل الثاني من عناصر وعوامل خلود النهضة الحسينية المقدسة، هو الطبيعة المأساوية لثورة الإمام الحسين عليه السلام. فقد كان مقتل الإمام الحسين عليه السلام عبارة عن فاجعة كبيرة بحدث ذاتها، في جميع فصولها، منذ انطلاق الإمام الحسين عليه السلام من المدينة إلى مكة، وثم انطلاقه من مكة إلى كربلاء. وكانت الفاجعة العظمى يوم العاشر من المحرم، بل واستمرت تلك الفجائع والمصائب إلى يوم الأربعين وعودة سبايا آل رسول الله صلى الله عليه واله وسلم إلى أرض كربلاء.

 وقد أشير سماحة الشيخ الدكتور عبدالله اليوسف في إحدى محاضراته إلى هذا المعنى فيقول: "قد كانت الثورة من بدايتها حتى نهايتها فاجعة مدوية تثير الألم والأسى والحزن العميق في القلوب والنفوس. فعندما نقرأ ما حدث للإمام الحسين  عليه السلام، وأهل بيته، وأنصاره وأصحابه من مآسٍ محزنة، ونهايات مؤلمة جعلها ذات جاذبية خارقة على المستوى الإنساني العام فضلاً عن بعدها الديني. فكل من يطلع على أحداث كربلاء -وإن لم يكن مسلماً- يتفاعل ويتضامن إنسانياً مع مظلومية الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه الذين استشهدوا بين يديه، ويستنكر ما تعرضت له النساء والأطفال من التشريد والأسر والأذى النفسي والجسدي بما يدمي القلوب ويثير الأسى والألم العميق". (1)

 ولهذا فإننا نرى النبي صلى الله عليه واله وسلم يؤكد على مأساوية ثورة الإمام الحسين عليه السلام فيقول صلى الله عليه واله وسلم: "إنّ لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً".]مستدرك الوسائل ج 10 ص 312[. وروري عن الإمام زين العابدين عليه السلام تأكيدا على هذا المعنى وهو قوله عليه السلام: "ولا يوم كيوم الحسين عليه السلام ازدلف إليه ثلاثون ألف رجل، يزعمون أنّهم من هذه الأمّة كلّ يتقرّب إلى الله عزَّ وجلّ بدمه، وهو بالله يذكرهم فلا يتعظون، حتّى قتلوه بغياً وظلماً وعدواناً". ]أمالي الصدوق, 547[.
 العامل الثالث والأخير هو إعلام أهل البيت عليهم السلام، بداية من رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وتأكيداته على مصاب الإمام الحسين عليه السلام، وانتهاء بصاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف.

 حيث أقام رسول الله صلى الله عليه واله وسلم العزاء على حفيده الحسين عليه السلام قبل استشهاده بنصف قرن، وقد تحدثت الروايات الكثيرة عن هذا الأمر. وسوف نستعرض واحدة من هذه الروايات التي ذُكرت في كتب بعض فرق المسلمين حيث ورد عن عائشة أنّها قالت: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى أصحابه، والتربة في يده، وفيهم أبو بكر، وعمر، وعلي، وحذيفة، وعمار، وأبو ذر، وهو يبكي، فقالوا: ما يبكيك يا رسول الله ؟! فقال: "أخبرني جبرائيل، أنّ ابني الحسين يقتل بعدي بأرض الطفّ، وجاءني بهذه التربة، فأخبرني أنّ فيها مضجعه". ]مجمع الزوائد 9 / 188 ، المعجم الكبير 3 / 107[.

 ثم جاء أمير المؤمنين عليه السلام وتحدث عن مصاب الإمام الحسين عليه السلام عند مروره بأرض كربلاء في طريقه إلى صفين حين قال: ".. ومصارع عشّاق شهداء، لا يسبقهم من كان قبلهم, ولا يلحقهم من بعدهم".]بحار الأنوار ج 41 ص 295[. ولا أنسى سيدتي ومولاتي زينب عليها السلام حينما تحدثت أمام أهل الكوفة عن خذلانهم وتقصيرهم في نصرة أبي عبدالله الحسين عليه السلام، وتجلدت ونطقت بلسان أمير المؤمنين عليه السلام في مجلس عبيدالله بن زياد ومجلس يزيد بن معاوية في الشام. ثم جاء الدور على أئمة أهل البيت عليه السلام، فهاهو الإمام زين العابدين عليه السلام يتحدث عن أهل بيت النبوة والرسالة أمام جمهور المسلمين في أرض الشام، وعند عودته إلى المدينة لا يأكل ولا يشرب حتى يخلط ذلك الطعام والشراب بدموع عينه.

 وهكذا تحدث الأئمة عليهم السلام وأصدروا البيانات والأوامر والتشريعات لإقامة مواكب العزاء ومجالس العزاء على الإمام الحسين عليه السلام، وكتابة الشعر عن واقعة الطف، وفي الأخير زيارة الإمام الحسين عليه السلام ولنا في ذلك روايات كثيرة دلت على ذلك، وأبرزها قول الإمام الصادق عليه السلام: "من قال فينا بيت شعر بنى الله له بيتاً في الجنة". ]وسائل الشيعة 467:10[. وقول الإمام الرضا عليه السلام لدعبل الخزاعي: "يا دعبل، إرثِ الحسين عليه السلام فأنت ناصرنا ومادحنا ما دمت حيّاً فلا تقصّر عن نصرنا ما استطعت". ]جامع أحاديث الشيعة 567:12[.

 وأما في الحث على البكاء فقد قال الإمام الرضا عليه السلام للريان بن شبيب: "يَا ابْنَ شَبِيبٍ: إِنْ كُنْتَ بَاكِياً لِشَيْ‏ءٍ فَابْكِ لِلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ ( عليه السَّلام )، فَإِنَّهُ ذُبِحَ كَمَا يُذْبَحُ الْكَبْشُ".]وسائل الشيعة: 14 / 502[. وقول الإمام الصادق عليه السلام: "من ذَكَرنا أو ذُكرنا عنده فخرج من عينه دمعٌ مثل جناح بعوضة ، غفر الله له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر". ]تفسير القمي ص616[. أما زيارة الإمام الحسين عليه السلام، فلها من الثواب الجزيل، وقد حث عليها أهل البيت عليهم السلام كثيرا، فيقول الإمام الصادق عليه السلام: "من أتى قبر الحسين عليه السلام تشوقاً إليهكتبه الله من الآمنين يوم القيامة، وأعطى كتابه بيمينه، وكان تحت لواءالحسين ابن علي –ع– حتى يدخل الجنة فيسكنه في درجته إن الله سميع عليم". ]وسائل الشيعة ج ١٤ ص ٤٩٧[.

 ولذلك فإن العناصر الثلاثة أعلاه قد ساهمت كثيرا في إبقاء الثورة الحسينية المقدسة باقية خفاقة إلى يومنا هذا على عكس بقية الثورات على مر التاريخ، ولا تزال هذه الجموع الغفيرة من الموالين لأهل البيت عليهم السلام تُقيم مآتم العزاء والنياحة على مصاب أبي عبدالله الحسين عليه السلام، ولا تزال الملايين تزحف إلى أرض كربلاء لزيارة سيد الشهداء عليه السلام، وستبقى كذلك إلى انقضاء الساعة.