أيها الإنسحابيون . تمهلوا

يُعرَّف الانسحاب الاجتماعي على أنه :
 " نمط من السلوك يتميز عادة بإبعاد الفرد  نفسه عن القيام بمهمات الحياة العادية ، ويرافق ذلك إحباط وتوتر وخيبة أمل ، كما يتضمن الانسحاب الاجتماعي الابتعاد عن مجرى الحياة الاجتماعية العادية ، ويصاحب ذلك عدم التعاون وعدم الشعور بالمسؤولية ، وأحيانا الهروب إلى درجة ما من الواقع الذي يعيشه الفرد "

 كما عرف ( كيل وكيتال Kale & Kayeetal ) الانسحاب الاجتماعي تعريفا إجرائيا وهو : المنسحبون اجتماعيا هم أولئك الذين يظهرون درجات متدنية من التفاعلات السلوكية والاجتماعية .

 ويمكننا القول بصورة عامة أن الانسحاب الاجتماعي هو : الميل إلى تجنب التفاعل الاجتماعي ، والإخفاق في المشاركة في المواقف الاجتماعية بشكل مناسب ، والافتقار إلى أساليب التواصل الاجتماعي ، ويتراوح هذا السلوك بين عدم إقامة علاقات اجتماعية ، أو بناء صداقة مع الأقران ، إلى كراهية الاتصال بالآخرين والانعزال عن الناس والبيئة المحيطة ، وعدم الاكتراث بما يحدث في البيئة المحيطة . 

 وعندما يحاول المرء إسقاط هذه المفاهيم على ما يعتري مؤسساتنا الإجتماعية الخدمية مثل : الجمعيات الخيرية ، والتعاونية ، والأندية الرياضية ، واللجان الإجتماعية ذات الأهداف المختلفة من ( حالات إنسحاب ) تشهدها بين الحين والآخر يكون أبطالها بعض الأعضاء سواء في مجلس الإدارة ، أو من الأعضاء العاملين في اللجان المساندة لها والتي تعتبر رافداً مهماً لتلك المؤسسات من روافد تحقيق التميز والنجاح وإكتمال النسق العام لهيكلها الإداري والفني ، يشعر المرء بالقلق والحيرة والإستغراب . 

 إنه لمن المدهش للمراقب أن يرى بحزن ولوعة هذه الإنسحابات وقد اتخذت لنفسها شكلاً جماعياً في بعض الأحيان الأمر الذي يدعو للقلق على الناحية البنيوية والوجودية بشكل أو بآخر لهذه المؤسسات الإجتماعية الفاعلة ، ويخشى عليها أن يأتي يومٌ تشعر فيه بالغربة بين أهلها وذويها بعدما تبرأ منها آباؤها الشرعيون كما نسمع ونرى في بعض المؤسسات المماثلة حيث يتأجل عقد إجتماع الجمعيات العمومية لها عدة مرات ( لعدم إكتمال نصاب أعضاء مجلس الإدارة ) أو ( لعدم إكتمال نصاب الحضور من الأعضاء المنتسبين للجلسة العمومية نفسها ) !! ولقد عايشت هذا الأمر المرير عدة مرات خلال السنوات الماضية ، فكم كنا نتنفس الصعداء عندما كان يكتمل النصاب بحده الأدنى ، بعد مرور ساعات كنا أقرب فيها للإختناق من فرط توجسنا وخوفنا من عدم إكتمال العدد اللازم لعقد الجلسة بالرغم من عوامل الجذب والتشويق التي كنا نحرص على توفيرها بشكل يُخرٍج الجلسة من شكلها النمطي والتقليدي .   

 والحال نفسه ينسحب على بعض الإجتماعات التي ينظمها دعاة الخير والألفة لتضييق هوة الخلاف - إذا لم يكن بالإمكان لهم ردمها إلى الأبد - بين بعض دعائم العمل الإجتماعي من أجل المحافظة على تحقيق المصلحة العامة ، والنسيج الإجتماعي من التفكك والضياع . فلا يلبث أن يبدأ الإجتماع حتى يحمى الوطيس وترتفع الأصوات وتتبادل التهم ، ويلجأ أحد الفريقين إلى الإنسحاب مخلفاً وراءه وجوهاً بائسة ، ونفوساً محطمة من جراء ذلك القرار الغير موفق على الإطلاق ( والذي ربما كان محقاً في إتخاذه لشعوره بالإهانة بشكل أو بآخر ) ولكن ألم يكن بالإمكان إتخاذ موقفاً أكثر ملاءمة وتقديراً لجهود المنظمين ومنها ( إستراتيجية الصمت ) مثلاً . ويدع للمنظمين فرصة إدارة الصراع أو لنقل المواقف المتوترة ، وتوفير الأرضية المشتركة التي يمكن الإنطلاق منها إلى آفاق الصلح والوفاق بين الطرفين حتى ولو تحصَّل بمرارة .

 إن الإنسحاب وإن كان قراره من حق من يتخذه ويراه مناسباً في اللحظة المناسبة إلاَّ أنَّ إتخاذه كطريقة مُثلى لإدارة الصراع والخلاف في العمل الإجتماعي ، وكوسيلة للتعبير عن الإحتجاج وعدم الرضا من موقف محدد ، أو من إسلوب إدارة بعينها يُعتبر من الأمور التي تحتاج إلى التمهل وإعادة النظر من هؤلاء الأعزاء الذين نسعد بوجودهم في هذه المبرات الإجتماعية الهامة والمؤثرة في حياة الناس جميعاً وليس فئة دون أخرى لأنها من المكتسبات الإجتماعية المشاعة التي تحقق النفع العام .

 كما في الوقت ذاته أطالب من يتصدون ( مثابين ومشكورين ) إلى القيام بتنظيم مجالس الصلح والوفاق وعودة المياه إلى مجاريها ، أن يتمتعوا بالحرفية في إدارة تلك الإجتماعات ، والتمتع بالصبر والدبلوماسية في إدارة المواقف الصعبة ، وعدم حرق المراحل بُغية الوصول إلى النتائج السريعة والهشة . وذلك بوضع مبادئ وضوابط ومحددات عامة ( ملزمة لكل المجتمعين على حدٍ سواء) حتى يتسنى توفير البيئة الصحية ، والمناخ الملائم القائم على الإحترام المتبادل دون تمييز لأحد على أحد ( لأن ما هو واجب الجميع ليس واجب أحد ) فالإحترام فرض عين على الكل للكل ، وليس فرض كفاية إذا قام به أحدهم سقط عن الآخرين لأي إعتبارات كانت .  

 ما أجمل أن يكون الكبير راعياً للصغير بل ومظلة يتفيأ تحتها الجميع  ، وما أجمل أن يبادر الصغير ( سناً بالطبع ) إلى تقدير من هو أكبر منه سناً ، ولا شك أن هذا الناشئ سيستمر إذا ما أحس بالألفة والإحتضان الأبوي من الكبير ، وتقدير إمكانياته وإن قلَّت ، وليس تحقيره وتعنيفه وتصغيره وتجاهله ( لا سمح الله ) أو ممارسة الوصاية بأي   شكل كان على أفكاره وميوله وإختياراته ، بل والعمل على إدخاله قسراً إلى ( بيت الطاعة العتيد ) أيها الإنسحابيون تواصوا بالصبر ولا تستعجلوا الفرار وتمهلوا من أجل تحقيق الإستقرار . أرجوكم بارك الله لمجتمعكم بكم وفيكم .           

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 12
1
علي ياسر
[ ام الحمام - القطيف ]: 13 / 8 / 2009م - 6:52 ص
استاذي الفاضل ابو علي الانسحاب هو عباره عن سلوك ربما يكون متوارثا و ربما يكون مكتسبا من خلال الاصدقاء و ربما يكون داتيا نتيجة ضعف في الشخصيه و عدم القدره على مجاراة الاخرين .اما بالنسبه للانسحاب الجماعي لان الاغلب من السواد العام تعودوا على الراحه و النوم على الوساده الناعمه و اصبح كل واحد منهم يزرع في الاخر الانهزام بطريقه او اخرى هذا المشروع الاجتماعي متعب لن نصل الى نتيجه لن نقدر من قبل الاخرين .
اما مسأله النزاعات داخل الاجتماعات التوفيقيه بين المؤمنين سببها الانا لان الاعتراف بالخطأ يعتبر هزيمه في نظره فكل طرف يصعد من الموقف حتى نصل الى نتيجة الانسحابات الغير موفقه .
العمل الاجتماعي يحتاج الى نفس تكبر نفسها عن صغائر الامور مؤمنه بما تقوم به . و دمت موجها و استاذا فاضلا نعتز به.
2
إبراهيم العبيدي
[ السعودية - القديح ]: 13 / 8 / 2009م - 8:08 ص
أستاذي أبو علي
بداية نشكركم على المواضيع البناءة ونسأل الله ان يوفقكم لكل خير وأن ينفع بها القراء والمجتمع

أستاذي
أعتقد أن هناك أسباب كثيرة تسبب الانسحاب
منها ما تفضلتم به في مقالكم السابق (التربية)

ومنها ما له علاقة بالقائمين على الأعمال الاجتماعية

ومنها ما له علاقة بالمجتمع نفسه

وليس هناك مجال للاسهاب

شكراً لكم مرة أخرى

تلميذكم
أبو خليل
3
احمد العزيز
[ السعودية - القطيف ]: 13 / 8 / 2009م - 6:44 م
الاستاذ ابراهيم /
لقد نلت اعجابنا الشديد بتنوع موضاعاتك وثراء مفاهيمك , وقد التقيت بجنابكم الكريم في احدى المجالس بأم الحمام قبل ليلتين وكم كنت اتمنى لو سمح المكان والزمان للتحدث مع مقامكم في هذا الموضوع أو غيره .
عموما ياأستاذ _ مجتمعنا كغيره يعاني من الشللية والتحزب الأعمى الذي يدق أركان البنية الإجتماعية وأنت بذلك خير عليم .
4
ابراهيم بن علي الشيخ
[ القطيف - أم الحمام ]: 13 / 8 / 2009م - 7:24 م
الأخ / علي ياسر
يسر الله أمرك ، وعلا قدرك وشأنك . أشكرك على مداخلتك القيمة وتسليطك الضوء على أسباب الإنسحاب الفردي والجماعي عزز الأهداف التي يرنو المقال لبلوغها وإن إختلفت المداخل بيننا . شكراً لك على إنضمامك لقافلة المعلقين وأتطلع إلى تواصلك .
5
ابراهيم بن علي الشيخ
[ القطيف - أم الحمام ]: 13 / 8 / 2009م - 7:30 م
الأخ العزيز / الأستاذ ابراهيم العبيدي
أتفق معك في تصنيفك للأسباب التي تقف وراء حالات الإنسحاب من العمل الإجتماعي . ولكن مالم أذكره في المقال أن هناك ما يمكن أن نطلق عليه ( قادة الإنسحاب ) وعليهم تقع المسؤولية يا أبا خليل . دمت لي خليلاً ناصحا . وتقبل تحياتي .
6
ابراهيم بن علي الشيخ
[ القطيف - أم الحمام ]: 13 / 8 / 2009م - 7:37 م
الأخ الفاضل : أحمد العزيز
لقد حرمتني دون أن تعلم فرصة التعرف على شخصكم الكريم عندما إلتقيت بك كما أخبرت في مداخلتك . وبالرغم من نكهة اللقاء بك عبر هذا المنبر المتميز ، إلا أن الحديث المباشر معكم كان سيضيف طعما آخر لنكهة اللقاء . فعسى أن تجود الأيام علينا بفرصة أخرى ، وشكراً لك على تواصلك وذوقك الرفيع .
7
عبدالله
[ أم الحمام - القطيف ]: 14 / 8 / 2009م - 1:44 ص
أستاذ ابراهيم الشكر الجزيل لك على محاولاتك الدائمة بالإرتقاء بمجتمعك.

يا أستاذ ابراهيم أنا سعيد في حياتي دون المشاركة في اللقاءات الإجتماعية.
زوجتي وأهلي وعملي وأصدقاء قليلون وهذا أكثر مايشغل بالي

تحيتي لك ولقلمك المعطاء
8
ابراهيم بن علي الشيخ
[ القطيف - أم الحمام ]: 16 / 8 / 2009م - 7:43 م
الأخ الفاضل / عبدالله
زادك الله راحة واطمئنان وسعادة وأنت تنعم بقرب أهلك والقلة من أصدقائك ، ولكن هذا لا يكفي لتحقيق الإشباع العاطفي لأنك جزءاً من المجتمع وعضواً أساسياً فيه ، ورغم إحترامي لنمط حياتك الذي تختار إلا إنني أتطلع أن أراك عنصراً فاعلاً في المجتمع لأنك كائناً إجتماعياً بطبعك ولا بد لك من الإستعانة بالآخرين لسد إحتياجاتك كما أنهم لا غنى لهم عنك . وتقبل دعواتي لك بالتوفيق .
9
Burair
[ Qatif - Qatif ]: 20 / 8 / 2009م - 4:23 ص
السلام عليكم ورحمة الله
جزاكم الله الف خير على تناول هذه المواضيع الجميلة ولنا تعليق على الموضوع
في تصوري الثقافة التطوعية وثقافة تحمل المسؤولية تعاني الكثير في الوسط الاجتماعي ففي الانسحاب شكل من اشكال النقص حيث ان العاملين في المجال التطوعي يعانون من ازدياد عدد المسؤوليات على حساب الكثير من احتياجاتهم النفسية والاسرية الامر الذي يدعوهم للركون للثقافة السائده وهي ايثار الراحة... المطلوب اليوم الدفع باتجاه اقحام الشباب في الاعمال التطوعية والخدمية واشاعة ثقافة الحوار
السبب الثاني هو ان التطوع كان في احدى الحقب الزمانية مصدر من مصادر التعرض للسجن ...
من هنا نرى ضرورة العمل على دراسة الحالة الاجتماعية لمعرفة الاسباب الرئيسة في هذا المجال ولكم كل الشكر والتقدير مجددا
اخوكم
10
ابراهيم بن علي الشيخ
[ القطيف - أم الحمام ]: 20 / 8 / 2009م - 7:30 م
الأخ الفاضل : Burair
أتفق معك في بعض ما أشرت إليه من أسباب تؤدي إلى عزوف الشباب عن العمل التطوعي والإنسحاب الإجتماعي ولكن - ياعزيزي - هنا تأتي أهمية التعاقب القيادي وما يتطلبه ذلك من إعداد وتأهيل ، ولو رجعت لمقالي الذي بعنوان : أزمة القيادة في العمل الإجتماعي فستجد ما له صلة بمداخلتك الطيبة . أشكرك وأرجو تواصلك الرائع .
11
رسائل شكر
[ السعودية - ام الحمام ]: 21 / 8 / 2009م - 11:08 ص
الاخ الاستاذ/ ابو علي
يسرني وللمرة الأولى أن اضيف تعليقا حول مقولتك ... الانسحاب الجماعي
ارى انه آن الآوان لتأخذ ثقافة العمل التطوعي دورها .. كثير منا يجهل أهمية العمل التطوعي وفوائدها النفسية , ويميل الى جانب العمل الديني تجاه حسينية او ماتم وكأنما نهج أهل البيت فقط ينصب نحو خدمة البرامج والأنشطة الحسينية, والحال أنه سلام الله عليهم يوصون بالجار والفقير واليتيم , وخدمة الناس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, لا ادري سبب عزوف الكثيرمن الشباب عن الالتحاق بلجنة من لجان الجمعية او النادي, استاذ العزيز ابو علي... رمضان على الأبواب وثلاثون يوم ونجد والحمد لله هنالك توجه لحضور مجالس أهل البيت زادها الله وتقبل الله من القائمين عليها,والسؤال هل تجد خطيباً يحفز الشباب حول أهمية العمل التطوعي ؟؟؟
12
ابراهيم بن علي الشيخ
[ القطيف - أم الحمام ]: 25 / 8 / 2009م - 3:17 م
الأخ الفاضل : رسائل شكر
أبعث لك برسالة شكر عطرة لتفضلك بالقراءة والتعليق . ولقد فتحت نافذة للنقاش بشأن أدلجة العمل الإجتماعي وإقتصاره على ( المجال الديني ) وكأن من هم منتسبين إلى النادي مثلاً ليسوا من نتاج هذا المجتمع وجزءاً من نسيجه وهذا ما يؤلم بحق . تحياتي .
إستشاري سلوك وتطوير موارد بشرية