الإمام الكاظم .. ثورة من داخل السجن


 

الجحيم اليومي هو مايدفع الناس غالباً إلى الإمتعاض و الغضب من حكوماتها و أنظمتها، و هذا الجحيم قد يختلف من صورة إلى أخرى، لكنه قد يتراكم لتكبر دائرة الغضب عند الناس و تنفجر على صورة ثورة. فالثورة لاتكون إلا عند تراكم الظلم، التخلف، الفقر، البؤس و الإستبداد، و المس بكرامة الإنسان و إنعدام الحرية.

الثورة لاتكون إلا عندما تتوفر البيئة المناسبة لها، فالناس لاتميل إلى الثورة و الحرب، بل الجميع يود العيش بأمان و طمأنينة و هدوء مادام العدل و القانون حاكم و مُحترم و يراعي حاجات الناس المشروعة و التي كفلتها لهم شريعة السماء.

البيئة الثورية كانت متوفرة و بإمتياز في العصر العباسي الذي ارتسم بالظلم بجميع أشكاله و ألوانه، و رغم أن الكتب المدرسية التي درسناها في المدارس تحاول ان ترسم صورة وردية جميلة للعهدين الأموي و العباسي، إلا أن الشمس لايمكن أن تغطى بغربال، فالثورات التي توالت في العهد الأموي و العباسي تبين و تظهر مدى حاجة الناس في ذاك الوقت للتغيير، و رغم أن الثورة انتصرت على الدولة الأموية إلا أن وجود ثغرات و أخطاء أدت لخطفها، ليقوم نظام متسلط مستبد مكان آخر، و من الطبيعي وجود ثغرات في اي ثورة، فالناس تتفق على الحاجة الى التغيير و لكن بعد أن تزيل عقبة التغيير تختلف في الصيغة التي يجب أن تكون بديلاً عن الصورة السابقة، أو بالأصح أن غياب صورة أو نموذج النظام المثالي البديل عن النظام الأموي هو الذي سهل على العباسييون وصولهم للحكم، و مايحدث اليوم في ثوراتنا في العالم العربي وما حدث سابقا بعد عهد الاستعمار البريطاني هو أقرب لتلك الصورة، و الغريب أن كلى النظاميين الأموي و العباسي تزينوا بعباءة الإسلام و هم أبعد الأنظمة عن الشريعة الإسلامية.

الدولة العباسية التي أبتدأت عهدها بخلافة عبدالله السفاح و الذي استمر فترة قصيرة لا تزيد عن اربع سنوات كانت مليئة بلون الدم، و حتى ولاته لم يكونوا اقل منه إستبداداً، فبعد أن تولى أبو العباس السفاح الحكم وصار أوّل حاكم عباسي قام بتعيين الولاة في البلاد الإسلامية فعيّن عمه داود بن علي بن العباس والياً على يثرب ومكة واليمن.

وقد خطب داود أول توليه المنصب خطاباً في أهالي المدينة وتضمن خطابه التهديد والوعيد بالقتل والتشريد قائلاً:أيها الناس أغركم الامهال حتى حسبتموه الاهمال ، هيهات منكم ، وكيف بكم ؟ والسوط في كفّي والسيف مشهر.

و أول ماقام به عم السفاح أن قتل مولى الإمام الصادق(عليه السلام) المعلى بن خنيس(رضوان الله تعالى عليه)، و كان لمقتل المعلى أثره في قلب الإمام(عليه السلام) حتى أن جن الليل قال(عليه السلام) مناجياً ربه و داعياً على داوود بن علي «اللّهم ارمه بسهم من سهامك فأفلق به قلبه» فأصبح وقد مات داود والناس يهنئونه بموته.

و بعد هلاك السفاح خلفه المنصور الدوانيقي، و لم يكن المنصور اقل وحشياً و إجراماً من السفاح، فأسرف في القتل و إباحة الدماء، و كان يتخلص من كل شخص قد يشكل خطر على سلطته و خلافته، حتى دس السم الى الإمام الصادق فقتله، ليوصي بالخلافة لخمسة ،احدهم ابنه عبــد الله المعروف " بالافطــح " ، والثاني ابنه موسى ، والثالث " محمد بن سليمان " الوالي العباسي على المدينة ، والرابع زوجته " حميدة " والخامس الخليفة " المنصور العباسي " المعروف بالدوانيقي.

كانت التشكيلة غريبة ولكن حين ظهرت الاسباب التي دعت الامام الى ان يجعل اوصياءه هؤلاء الخمسة تبينت الحكمة من ذلك.

فحينما سمع المنصور العباسي بموت جعفر الصادق كتب رسالة الى واليه على المدينة محمـد بن سليمان جاء فيها :" وان كان اوصى الى رجل بعينه فقدّمه واضرب عنقه " ، فاجابه سليمان : " ان اوصياءه خمسة فأيهم اقتل " ؟ وحينما قرأ المنصور الجواب قال : " ليس الى قتل هؤلاء سبيل".

و من هنا يمكن لنا تصور النظام الوحشي لطريقة الحكم العباسي الذي عاصره الإمام الكاظم، مع ذلك كان يمارس عملية بث الوعي الفكري بين الناس، و بناء الطاقات الإيمانية و الكوادر القيادية الرسالية التي يمكنها أن تأخذ الأمة إلى بر الأمان، حتى صار وجود الإمام أمراً ثقيلا على السلطة العباسية لقوة تأثيره في الاُمة واتساع الامتداد الشيعي حتى وجدناه يقدر المتطوعين في جيش الإمام بمائة ألف سيف . من هنا ضاق صدره وازعجه انتشار صيت الإمام لأن الناس غدت تتناقل مآثر الإمام وعلمه وأخلاقه.

و مع ذلك كان للوشاة (الجواسيس) دور سلبي بارز في تحريض الطاغوت العباسي على سجن الإمام ، و كان من بينهم إبن أخ الإمام محمد بن إسماعيل، و مع ذلك كان للإمام موقف سامي مع ابن اخيه.

فعن علي بن جعفر بن محمد قال: «جاءني محمد بن اسماعيل بن جعفر يسألني أن أسأل أبا الحسن موسى أن يأذن له في الخروج الى العراق وأن يرضى عنه، ويوصيه بوصية.

قال: فتنحيت حتى دخل المتوضأ وخرج وهو وقت يتهيأ لي أن أخلو به وأكلّمه.

قال: فلما خرج قلت له: إنّ ابن أخيك محمد بن اسماعيل سألك أن تأذن له بالخروج الى العراق، وأن توصيه، فأذن له(عليه السلام).

فلمّا رجع الى مجلسه قام محمد بن اسماعيل وقال: يا عمّ أحب أن توصيني.

فقال: أوصيك أن تتقي الله في دمي

فقال: لعن الله من يسعى في دمك ثم قال: يا عم أوصني فقال(عليه السلام): أوصيك أن تتقي الله في دمي

قال: ثمّ ناوله أبو الحسن صرة فيها مائة وخمسون ديناراً فقبضها محمد، ثم ناوله اُخرى فيها مائة وخمسون ديناراً فقبضها، ثم أعطاه صرة أُخرى فيها مائة وخمسون ديناراً فقبضها، ثم أمر له بألف وخمسمائة درهم كانت عنده

فقلت له في ذلك، واستكثرته. فقال: هذا ليكون أوكد لحجتي إذا قطعني ووصلته

قال: فخرج الى العراق، فلما ورد حضرة هارون أتى باب هارون بثياب طريقه من قبل أن ينزل، واستأذن على هارون، وقال للحاجب: قل لأمير المؤمنين انّ محمد بن اسماعيل بن جعفر بن محمد بالباب

فقال الحاجب: انزل أولا وغيّر ثياب طريقك وعُد لادخلك عليه بغير إذن، فقد نام أمير المؤمنين في هذا الوقت. فقال: أعلم أمير المؤمنين أني حضرت ولم تأذن لي.

فدخل الحاجب وأعلم هارون قول محمد بن اسماعيل، فأمر بدخوله، فدخل وقال: يا أمير المؤمنين خليفتان في الأرض: موسى بن جعفر بالمدينة يُجبى له الخراج، وأنت بالعراق يُجبى لك الخراج؟! فقال: والله ؟! فقال: والله!

قال: فأمر له بمائة ألف درهم فلما قبضها وحُمل الى منزله، أخذته الذبحة في جوف ليلته فمات، وحوّل من الغد المال الذي حُمل اليه».

بالطبع لقد كان هارون اللارشيد يعرف هذا الوضع الاّ ان العباسيين كسائر الحكام الديكتاتوريين حتى يومنا هذا تستخفهم الاثارات، فكم من عالم وفقيه يقبع اليوم في السجن بفعل تحريض هؤلاء الوشاة الجهلة الذين باعوا الآخرة بحفنة من الدنيا، كما أن الإمام(عليه السلام) يعلم بأنه لن يسلم من هؤلاء الظلمة و مع ذلك كان يقوم بدوره الرسالي، لهذا ذهب الطاغوت العباسي بنفسه الى المدينة ليباشر إعتقال الامام ، لانه كان يعرف ان الامام موسى بن جعفر يمتلك سلطة روحية على جميع المسلمين ، ويعرف انه  اذا بعث بأحد قواده ليأتي بالامام فان قائده قد يخونه ولا يطيع أوامره .

إمام القلوب في طوامير السجون:

ماكان هارون ليعتقل الإمام دون أي مقدمات، هو يعلم جيداً أن الإمام يمتلك من الأتباع الكثيرين الذين هم مستعدين للتضحية بأرواحهم في سبيله، لهذا هو أعد العدة و أسبق إعتقال الإمام بإستعراضات أمنية و عسكرية و إرهاب كبير، و حتى يومنا هذا الطواغيت يستخدمون نفس الأساليب قبال إعتقال معارضيهم، فكيف و أن هذا المعتقل يعتقد به أتباعه أنه الإمام المعصوم المنصب من عند الله سبحانه، سأل الرشيـــد موسى بن جعفر : انت الذي تبايعك الناس سراً ؟

قال : " انا امام القلوب وانت امام الجسوم ".  ولم يجد هارون بدا من اعتقال الامام الكاظم فأعتقله وطلب تجهيز محملين ، محمل يذهب على طريق الكوفة ، ومحمل يذهب على طريق البصرة لكي يعمي على كل من يريد تخليص الامام ، وكان قد جهز المحملين ليلا وراء الستر ضماناً لعدم هياج الناس وثورتهم.

وهذا يدل على ان الوضع الذي كان يعيشه المسلمون آنئذ تميّز بان الامام (عليه السلام) كان يبعث الروح الاسلامية في الامة ، وفي ابنائها المحرومين ، وكان الخلفاء يريدون تطميع الناس وارشائهم وشراء ضمائرهم ، وتكوين مجموعة من المتزلفين والمرتزقة حولهم ليحاربوا الائمة ( عليهم السلام ) اصحاب الحق الشرعي.

ان بعث الوعي يعني القضاء على اهم عامل يستند اليه الحكام الظلمة وهو تجهيل الناس واعماء الحقائق عنهم . تارة بالارهاب واخرى بالأغراء. و هؤلاء الظلمة يعلمون جيداً أن هؤلاء الرساليين لا يطمعون في الحكم، و لا غاية لهم فيها، إنما يسعون لدولة الإنصاف و العدالة، كانت تحركاتهم هي استجابة لصرخة المظلوميين و المحروميين و الثكلى.

راهنت الدولة العباسية على قبضتها الأمنية في إسكات المعارضيين، ولم تبادر نهائياً في مكافحة الأسباب التي تدفع الناس تجاه الثورة، عبر الإصلاح و العدل و حماية حقوق الناس، لهذا كانت ما أن تهدأ ثورة حتى تقوم أخرى، حتى في فترة سجن الإمام(عليه السلام). و كان(عليه السلام) يرى في السجن رغم مافيه من آلام و أبشع أنواع التعذيب وقتاً للعبادة حتى قال(عليه السلام) «اللهم انك تعلم اني كنت اسألك ان تفرغني لعبادتك، اللهم وقد فعلت فلك الحمد».

لقد حاول الطاغوت العباسي أن يذل الإمام و لكن الله أذله، و قبره و حرمه الذي يتوافد له الملايين في شهادته خير دليل على ذلك، و أما دولة بني العباس فما بقيت لهم، وهاهو التاريخ يلعنهم كما لعن من قبلهم من الطغاة و الجبابرة و يلعن من سار على دربهم من حكام هذا الزمان.

و هاهو يوم استشهاده يعد يوماً عالمياً للسجناء، للتنديد بجرائم الطغاة الظلمة في محاولتهم لتغييب الوعي داخل السجن، ولكن هم يخطئون البوصلة كالحاكم العباسي، فغضب النس يتوارث، مادام الظلم متوارث، و إن استطاع الطاغوت أن يرهب الناس بالقتل و السجن و القبضة الأمنية اليوم، فإن هذا الخوف سيكسر يوماً ما، و الناس تتجاوزه بشكل تدريجي، و أن من لم يقبل في دفع ثمن التغيير اليوم، سيدفع غداً ثمن عدم التغيير، و لهم في طواغيت الحاضر الهالكة أمثلة واضحة، إذا كان لهم عقول يستخلصون بها عبر السابقين