الشيخ الفضلي وزبدة الحقب

 

 


في بائيته الشهيرة في فتح عمورية يقول أبو تمام:
حَـتَّـى إذَا مَـخَـضَ اللهُ السنين لَهَا.... مَخْـضَ البَخِيلَـةِ كـانَـتْ زُبْدَةَ الحِـقَبِ

لو قال أبو تمام هذا البيت في زماننا الراهن لشنَّ عليه البعض من أصحاب التفكير الضحل حملة ضارية في مختلف وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي متهمين إياه بالعلمانية والليبرالية لصورة التشبيه الموجودة في البيت. ولكنه قاله ومضى قبل أن يُدرك زمن التكفير ومصادرة التفكير باسم الدين من قِبَل من لا يفقه من الدين شيئا.

حضرني هذا البيت بقوة فور سماعي نبأ رحيل الشيخ الفقيه الدكتور عبد الهادي الفضلي ( رحمه الله ) للعلاقة الوثيقة في ذهني بين الراحل الكبير وبين ( زبدة الحقب ). فقد كان الشيخ بحق زبدة الحقب بما عُرف عنه من علم موسوعي غزير وعمل منهجي دقيق في الكتابة والتأليف وأخلاق سامية في تواضع جم.

 وكان زبدة الحقب حين جمع بين الحوزة والجامعة، فأخرج من تزاوجهما مؤلفاته الرصينة ذات الجينات المتميزة.

ولأنه كان زبدة الحقب، فقد ركز في تأليفه على استخراج الزبدة من كل موضوع كتب فيه. وفي العناوين التالية شاهد من أهلها: مختصر النحو، مختصر الصرف، تلخيص العروض، خلاصة علم الكلام، خلاصة المنطق، خلاصة الحكمة الإلهية، الموجز في علم التجويد.

وحتى الكتب الأخرى التي لم تكن صريحة العنوان في زُبدِيّتها، كانت بكل تأكيد زُبديّة المضمون. ومنها عل سبيل المثال لا الحصر: أصول البحث، تاريخ التشريع الإسلامي، الوسيط في قواعد فهم النصوص الشرعية، أصول الحديث، أصول علم الرجال، مبادئ علم الفقه، ...

الراسخون في الكتابة وشؤونها يدركون صعوبة، بل ربما استحالة الجمعَ بين التبسيط والاختصار والعمق، إذ غالبا ما يكون أحدها على حساب أخيه أو أخَوَيه. أما عند الشيخ الفضلي فالأمر في غاية الإمكان، بل هو فنه الذي يتقنه إتقانا فريدا؛ فكتبه جميعها تمثل النموذج الرفيع للكتابة السهلة الممتنعة، والتي تذهب في العمق بعيدا، وتبتعد في ذات الوقت عن الإغلاق والتعقيد. يقول في مقدمة كتابه (خلاصة الحكمة الإلهية): "فبين يدَيّ القارئ الكريم الحلقة الرابعة والأخيرة من مجموعة المعارف العقلية التي تضم الحلقات التالية:

- التربية الدينية
- علم المنطق
- علم الكلام
- الحكمة الإلهية

وقد حاولت قدر الطاقة أن تأتي موضوعاتها بيّنة التعبير واضحة المعنى، وإني لأرجو أن أكون قد وفقت لذلك. وهي – أخيرا – لا تعدو كونها محالة متواضعة آملا أن تحقق القصد، إنه تعالى ولي التوفيق وهو الغاية."

هذه المقدمة على قصرها تبين اهتمامه بالعبارة والمعنى الواضحين، كما تكشف عن تواضعه الكبير الذي لا يرى فيما يقدم من أعمال جليلة سوى محاولات متواضعة حسب تعبيره. فلا يكاد يخلو كتاب من كتبه من الإشارة إلى أنه (محاولة متواضعة)، يطلب من أهل الاختصاص فيها التصويب والتصحيح. يقول في مقدمة كتابه (الوسيط في قواعد فهم النصوص الشرعية): "ليس هذا الكتاب إلا محاولة متواضعة أضيفها إلى المحاولتين السابقتين، (يقصد كتاب مبادئ أصول الفقه وكتاب دروس في أصول فقه الإمامية) راجيا أن أجد من المعنيين بأمثال هذه الدراسات ما يصحح من أخطاء الكتاب".

أمر آخر يختم به مقدمات كتبه يركز فيه على غايته الشريفة من تأليفاته، فالله تعالى "ولي التوفيق وهو الغاية" كما يختم دائما. ومما لا شك فيه أن إخلاصه لهذه الغاية هو سر توفيقه للإنتاج الغزير المتنوع الذي غطى حقولا شتى من المعارف يجمعها ناظم واحد يتمثل في الرغبة الصادقة في تجديد المناهج الحوزوية وتقريبها لتكون "في متناول يد المثقف العام أيضا".

إن الشيخ الفضلي مدرسة رائدة في مجال الكتابة العلمية الحوزوية التخصصية، ينبغي العمل على إبراز معالمها وكشف أساليبها وفتوحاتها، لتكون نموذجا يحتذى ومنهجا يُسترشَد بهديه. 

شاعر وأديب