الطائفية بين مفهومين

 


الطائفية مفردة مشتقة من الطائفة والطائفة كلمة مشتقة من (الطَوف) فالبناء اللفظي يحمل معنى تحرك الجزء من الكل دون أن ينفصل عنه بل يتحرك في إطاره وربما لصالحه . والطائفية هو انتماء لطائفة معينة دينية أو إجتماعية ولكن ليست عرقية فمن الممكن أن يجتمع عدد من القوميات في طائفة واحدة بخلاف أوطانهم أو لغاتهم. 

فالطائفة بما هي طائفة وكذلك الطائفية بمعناها اللغوي ليست حالة سلبية بل هو أمر إيجابي ، فكون الفرد منتمي لطائفة دينية ويدافع من خلال هذا الإنتماء عن حقوقها ويطالب بها هو أمر جيد ومستحسن . وينعكس هذا الأمر على العائلية أو العشائرية أو الوطنية فكون الإنسان منتمي ومنادي بحقوقه من خلال هذا الإنتماء هو أمر مستحسن وذلك بشرط عدم تعديه على حقوق الآخر . ولكن في مفهوم الطائفية تكمن المشكلة في تجاوز طائفة على حدود وحقوق طائفة أخرى وذلك بتعديها عليها وحرمانها من حقوقها ، وهذا ماعكس الحالة السلبية في مفهوم الطائفية عبر المفهوم المسيس.

فمهوم الطائفية السياسي اصطبغت دلالته في هذا العصر بوجه سياسي صارخ ، أكثر من كونه نتاجاً للتمايز الفقهي، الذي هو من طبيعة الشريعة القائمة على التعددية، والنسبة في النظر إلى النصوص.
 
فالمجتمعات وكذلك الدول المتفهمة تسعى لوضع الأحكام والقوانين التي تلزم كل طائفة بواجباتها وتمنحها حقوقها بحيث لاتتعدى طائفة مهما كان تعدادها على طائفة أخرى مما يخلق توازن وإستقرار وإزدهار في تلك الدول والمجتمعات .

فكون الفرد الشيعي ينتمي لطائفة ويطالب بحقوقها الطبيعية وذلك من دون ان يتعدى على الآخر ويمارس معتقداته وعبادته بكل حرية يجب أن لايثير الطوائف الأخرى في تلك المجتمعات وتحت ظل تلك الحكومات .

فيشير سماحة العلامة السيد جعفر العاملي في هذا الصدد  بأن " إعلان الرأي العقائدي أو الفكري في بعض الشخصيات أو الأمور والقضايا مع العلم بأن ذلك ربما يؤذي – بل هو يؤذي حتماً – جماعة أو طائفة من الناس، ويجرح مشاعرهم، لكون الموضوع نفسه يتميز بحساسية خاصة بالنسبة إليهم، لأنهم قد ألزموا أنفسهم تجاه ذلك الشخص أو الأمر بالتزامات معينة، لا يرى الآخرين صحة ما التزموه، ولا يوافقونهم على ما انتهجوه، ففي مثل هذه الحالة ليس للطرف الذي ألزم نفسه بما لا يوافقه عليه الآخرون أن يمنع الآخرين من طرح آرائهم، والجهر بأدلتهم، بحجة أن ذلك يؤذيه، ويجرح مشاعره. فكل إنسان له قناعاته، وأراؤه وأفكاره وله كامل الحرية في أن يطرحها ليتداولها الآخرون، ولينظروا في أدلتها ومبرراتها، وليميزوا غثها من سمينها، وصحيحها من سقيمها، مادام أنه ملتزم بالمنهج العلمي الصحيح والموضوعي، وبالكلمة النزيهة والمهذبة، ويطلب من الآخرين أن يلتزموا بذلك أيضاً. وأما الذين يلزمون أنفسهم بالتزامات معينة، فغاية ما يسمح لهم به هو: أن يقدمواو أفكارهم وأدلتهم أيضاً، ويطرحها للتداول والنظر، بالطريقة العلمية المقبولة والمعقولة، وبإنصاف وموضوعية" (١)
 
ولكن العجيب أن يأتي أحد ويتهم تلك الطائفة بالطائفية السلبية عندما تمارس معتقداتها وتحافظ على ثوابتها بل إنهم أحياناً يلجؤون للكذب على هذه الطائفة ويتهموها بما ليس فيها ، أو يتهموها بتعميق الحس الطائفي والتقوقع المذهبي أحياناً !

فممارسة المعتقدات لدى الشيعة ليس من الطائفية بمفهومها السلبي التي يفهما الأخر ! ،  وإن إتهامهم بتعميق الحس الطائفي والتقوقع في إطار المذهبية هو تعبير يحتاج إلى ذكر المصاديق ليُعرف إن كان ذا مدلول إيجابي أم سلبي، فإن كان ما تقصدونه به هو قيام الشيعة بتعميق الولاء لأهل البيت عليهم السلام والذي يستلزم تعميق العداء لأعدائهم، فهذا الفهم مغلوط لما يؤمن به الفرد من معتقدات تحت أطر التعددية  ! أفهَل يُراد منا أن نهمل عقائدنا لئلا نُرمى بتعميق الحس الطائفي والتقوقع في إطار المذهبية؟! إننا لو صنعنا ذلك لاندثرت عقيدتنا ولما بقى لها وجود، وهذا هو عين الخذلان لله ولرسوله ولأوليائه صلوات الله عليهم، وحاشى أن نكون من هؤلاء المتخاذلين أو المفرّطين بحبل الولاية المتين .

والعجيب أيضاً أن هذه التهمة بالطائفية لا توجّه هذه الأيام إلا للشيعة ،  فإن بقية الطوائف لا نرى أحدا يطلب منها أن تكفّ عن "تعميق الحس الطائفي والتقوقع في إطار المذهبية" وذلك من خلال إصرارها على تمجيد رموزها! ، بل وإصرارها على تكفير رموز الشيعة المقدسة كأبي طالب عليه السلام !، فلم لا يُطلب منهم أن يكفّوا عن هذا الاستفزاز لمشاعر الشيعة لكي لايشعلوا الطائفية وكذلك مراعاة للوحدة الإسلامية؟! أم أن هذه الوحدة المزعومة مطلوب من الشيعة فقط أن يراعوها فيتنازلون ويتنازلون فيما غيرهم يظل في ممارسة عقائده ؟!

من جهة أخرى نرى أن البعض منا وبكل أسف لأجل أن يدفع عنه تهمة الطائفية بمعناها السلبي ، يقوم برمي بعض بني جلدته بها بمجرد مطالبته بحقوقه أو إظهار ما يعتقد به ! ، أو يلجأ أحياناً لإتهام بعض الجماعات عموماً بما أبتلى بعض الشيعة به من عنف وقتل وتفجير !!
 
فالطائفية السلبية التي من مصاديقها مصادرة حقوق الآخرين وقمع الآخر من أن يمارس ويظهر مايؤمن به من ثوابت ومعتقدات هي ظاهرة خطيرة في المجتمعات ولكن على الفرد أن لايحاربها بالطريقة الخاطئة وذلك بالمساواة بين الضحية والجلاد ! ، وكذلك يجب أن لايعزلها عن الأوضاع السياسية والإجتماعية التي تعصف بأي بلد ما ، وكذلك لا نستطيع القول بأن حل مشكلة الطائفية السلبية هو بالدعوة إلى الوحدة من منظور السياسيين الذين يحاولون التماهي مع الآخر رغبة في خدمة أهدافهم ومطامعهم السياسية !

فالعلاج يكمن في التربية على الإيمان بحرية مايعتقد فيه أي طرف من الطائفة من دون انتقاص لحقه في ممارسة عبادته وعقائدة في مرئى من يعايشوه من الطوائف الأخرى ، وهذا كان ديدن علمائنا الماضيين وذلك في ذروة ماحدث من إقتتال طائفي ضد الشيعة في بغداد وذلك في زمان الشيخ المفيد - رضوان الله تعالى عليه - ( ٣٣٦هـ ، ٤١٣هـ).

حيث كان الشيعة في ذلك الزمن المظلم ممنوعين من إظهار عقائدهم ونصب المآتم في عاشوراء وكذلك الفرح في أعياد أهل البيت عليهم السلام ومنها إحياء عيد الغدير، بل تجاوز الأمر إلى الهجوم على القائمين بهذه الأعمال وقتلهم وحرقهم أحياء !! ، وهنا انقل قصة واحدة من كثير من القصص والأحداث والجرائم المؤسفة التي حدثت في عصر الشيخ المفيد رضوان الله تعالى عليه.

الزمان : شهر رمضان عام ٣٦٢ هجرية في عهد الدولة العباسية ، المكان : الكرخ ببغداد ، الحدث :  أمر الوزير أبو الفضل الشيرازي والي بغداد بإلقاء النار في دور أهل الكرخ  فاحترقت طائفة كثيرة من الدور والأموال ، من ذلك ثلاث مائة دكان، وثلاثة وثلاثون مسجداً، و قُتل أكثر من سبعة عشر ألف إنسان  !!  ، وعند ابن خلدون عشرون ألف إنسان ، السبب :  أنّ صاحب المعونة ضرب رجلاً من العامّة فمات؛ فثارت عليه العامة،  فهرب منهم، فدخل داراً، فأخرجوه مسحوباً ، فقتلوه، وحرقوه ، وعندما علموا إنه من الطائفة الشيعية هجموا على الكرخ وقاموا بهذا الفعل !! (٢) 
 
و قال ابن كثير في ذلك : " ثم تسلطت أهل السنة على الروافض ، فكبسوا مسجدهم مسجد براثا الذي هو عش الروافض !! وقتلوا من كان فيه من القومة !! "
 

ختاماً:

كان العصر الذي عاش فيه الشيخ المفيد - رضوان الله تعالى -  عليه هو عصر طائفي سلبي بإمتياز حيث تم القتل والتنكيل والحرق والتعذيب للشيعة عموماً لمجرد الإظهار والقيام بما يؤمنون به ولكنه رغم كل هذا لم ينادي بالتخلي عنها بل حث على إقامتها رغم المخاطر حتى إنه هُجِر أكثر من ثلاث مرات من بغداد لإرضاء المخالفين ، بل إن بعض بني جلدته حتى من المعاصرين عابوا عليه تمسكه وإظهارة لهذه العقائد ولكن لولا طرحة بهذه القوة وبهذا الوضوح وفي خضم هذه المحن لما وصلت لنا علوم أهل البيت عليهم السلام بهذا النقاء وبهذا الوضوح . رحم الله الشيخ المفيد وأمثاله من العلماء الأعلام الذين حفظوا الدين.    

(١)صراع الحرية في عصر المفيد - ص154.
(٢)البداية والنهاية – ج11 – ص273، وراجع: العبر وديوان المتبدأ والخبر – ج4 – ص446-447، وشذرات الذهب – ج3 – ص39، والكامل في التاريخ – ج8 – ص628، وراجع: ص629، وراجع: تجارب الأمم – ج2 – ص305-306-308-309، وتكملة تأريخ الطبري – ج1 – ص211-212.