عندما يحب اللهُ أحدا (2)

 

 

 

ما أجمل أن نمتلك أدوات نستطيع من خلالها معرفة محبوبية أحد عند الله تعالى كي نحب محبوب المحبوب سعيا للمحبوب ذاته، ورغبة في الالتحاق بمحبوبي المحبوب.
هذا ما يعلمنا إياه الحبيب المصطفى وهو أقرب المحبوبين للمحبوب الحق. فقد روى قطب الدين الراوندي في كتابه الدعوات أن النبي دعا ربه فقال: يا رب وددتُ أني أعلم من تحب من عبادك فأحبه. قال: إذا رأيتَ عبدي يكثر ذكري فأنا أذنتُ له في ذلك وأنا أحبه، وإذا رأيتَ عبدي لا يذكرني فأنا حجبته عن ذلك وأنا أبغضته.

إذن ذكر الله تعالى كثيرا هو من العلامات الفارقة المهمة على نيل الشخص لدرجة المحبوبية عند الله، وما أعظمها من درجة، وما أعلاها من شهادة، تصغر عندها الدرجات، وتتطلع إلى علوها الشهادات.

ولأن كثرة ذكر الله تعالى هو مفهوم مشكِّك كما يقول المناطقة، فهو في ذاته درجات أيضا. تماما كما اللون الأبيض مثلا – وهو من المفاهيم المشككة – درجات تختلف في النصاعة والنقاوة. وهذا يعني أن بلوغ درجة المحبوبية يستدعي السير المتواصل وزيادة الكثرة من أجل الارتقاء لدرجة أسمى، وهكذا.

لذا فقد صرح النبي موسى أن الغاية من سؤاله اللهَ تعالى جعل أخيه هارون وزيرا له، هي كما قال تعالى على لسان موسى في سورة (طه): ﴿كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34).

يقول السيد محمد الشيرازي (قده) في تفسيره (تقريب القرآن إلى الأذهان): في تفسير قوله ﴿وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً حتى تشتد الصلة ويكون الله هو المتجلي الوحيد في النفس.

ويقول الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسيره (الأمثل) في قول الله تعالى: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ: أجل .. إنّ هؤلاء يجب أن يكونوا مع اللّه ويذكروه في كلّ حال، وفي كلّ الظروف، وأن يزيحوا عن قلوبهم حجب الغفلة والجهل، ويبعدون عن أنفسهم همزات الشياطين ووساوسهم، وإذا ما بدرت منهم عثرة فإنّهم يهبون لجبرانها في الحال لئلّا يحيدوا عن الصراط المستقيم.

ولعل البعض يعتقد خطأ أن ذكر الله كثيرا هو من أسهل الأمور، إذ لا يحتاج المرء إلا لتحريك لسانه بذكر الله تسبيحا وتحميدا وتهليلا وتكبيرا. ولذا تأتي الروايات الشريفة لتدفع هذا الوهم عن الأذهان، ولتضع الذكر في سياقه الصحيح، ولتصفه بأنه من أصعب المهمات.

فقد ورد عن الإمام الصادق أنه قال: (من أشد ما فرض الله على خلقه، ذكر الله كثيرا، ثم قال : لا أعني سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وإن كان منه، ولكن ذكرُ الله عندما أحل وحرم، فإن كان طاعة عمل بها، وإن كان معصية تركها).

فذكر الله كثيرا – بحسب هذه الرواية – هو من أشد الفروض الإلهية على العباد، لأنه يقتضي عدم الغفلة عن الله تعالى وعن حضوره الدائم الذي (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ‏).

وهذا يستدعي من الإنسان معرفة حلال الله وحرامه والوقوف عند حدود الله في كل صغيرة وكبيرة. وما أصعب وأشد ذلك خصوصا في زمننا الراهن، حيث القابضُ على دينه كالقابض على الجمر، لكثرة دواعي الغفلة والانحراف، والعياذ بالله.

وفي رواية أخرى عن أبي بصير عن الإمام الصادق قال: ( من أشد ما عمل العباد إنصاف المرء من نفسه، ومواساة المرء أخاه، وذكر الله على كل حال. قال قلتُ : أصلحك الله وما وجه ذكر الله على كل حال؟ قال : يذكر الله عند المعصية يهُم بها، فيحول ذكر الله بينه وبين تلك المعصية، وهو قول الله :(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ).

نسأله تعالى أن يجعلنا وإياكم من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات، حتى نرتقي لدرجة المحبوبية عنده.

جمعة مباركة.. دمتم بحب.. أحبكم جميعا.

شاعر وأديب