العلم في خدمة الظلم ( 3 من 3 )

 

 


﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) الأعراف.

بعد حديثي عن الاسم الأعظم و الانسلاخ الذي قد يقع فيه الإنسان من آيات الله، و التعرض للانحراف القادم من خطوة تتبعها خطوات  ، أختم هذا المقام بما تبقى من وقفات :
التعبير بقوله ﴿مِنَ الْغاوِينَ وليس (غاويا) يعني الوصول إلى مرحلة متقدمة من الغواية، تبلغ حد الانضمام والانتماء إلى تلك الزمرة التي نجح الشيطان في جعلها من أتباعه. ﴿إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ الحجر: 42

 الآيات وسيلة للرفع، فإذا اختار الإنسان الارتفاع رفعه الله بها، كما قال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ. وإذا اختار التسافل والخلود إلى الأرض، فإن حكمة الله اقتضت تركه وخياره، وعدم إجباره على الارتفاع، كي يتحمل بعد ذلك مسؤولية الاختيار الخاطئ. هذا ما نستفيده من قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ.

على الإنسان أن يسعى دائما للرقي والارتفاع، ولا يرضى بالحياة الخسيسة الدنية. والإقلاع للأعلى يحتاج إلى جهد جهيد للتخلص من جاذبية الأرض وشهواتها، ونزعات النفس وأهوائها. الإقلاع يتطلب مخالفة الهوى وهو أمر عسير جدا. يقول أمير المؤمنين : إنما أخاف عليكم اثنتين؛ اتباع الهوى وطول الأمل.

حين يتبع الإنسان هواه ينفرط أمره وتضل بوصلته. يقول تعالى: (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) الكهف:28. قال صاحب تفسير مفاتيح الغيب: "فقوله وكان أمره فرطا معناه أن الأمر الذي يلزمه الحفظ له والاهتمام به وهو أمر دينه يكون مخصوصا بإيقاع التفريط والتقصير فيه، وهذه الحالة صفة من لا ينظر لدينه وإنما عمله لدنياه". 

قال رسول الله : "يقول الله عز وجل : وعزتي وجلالي وعظمتي وكبريائي ونوري وعلوي وارتفاع مكاني لا يؤثر عبد هواه على هواي إلا شتت عليه أمره ولبست عليه دنياه وشغلت قلبه بها ولم أؤته منها إلا ما قدرت له. وعزتي وجلالي وعظمتي ونوري وعلوي وارتفاع مكاني لا يؤثر عبد هواي على هواه إلا استحفظته ملائكتي وكفلت السماوات والأرضين رزقه وكنت له من وراء تجارة كل تاجر وأتته الدنيا وهي راغمة".

فصَّل الحديث السابق عن رسول الله حال المتبع لهواه، حيث يُشَتَّتُ عليه أمره، وتُلَبَّسُ عليه الدنيا ويُشغَل قلبه بها. وهذا ما تعبر عنه الآية الشريفة في تمثيلها لتلك الحال بحال الكلب اللاهث دائما سواء في حال الطرد والزجر أو في حال تركه. واللهث هو سرعة التنفس مع دلع اللسان. والمقصود بذلك شدة التكالب على الدنيا والركض الدائم وراء ملذاتها وشهواتها.

 ليس في التمثيل بالكلب من إزراء بالكلب، فتلك طبيعته وغريزته التي فطره الله عليها، وهي تمثل له حالة كمال لا نقص. أما أن يلهث الإنسان كالكلب فذلك هو النقص بعينه الذي ينبغي أن يسعى لرفعه عنه. يقول الإمام علي عن أمثال هذا من الناس: " وآخَرُ قَدْ تَسَمَّى عَالِماً ولَيْسَ بِه،  فَاقْتَبَسَ جَهَائِلَ مِنْ جُهَّالٍ وأَضَالِيلَ مِنْ ضُلَّالٍ، ونَصَبَ لِلنَّاسِ أَشْرَاكاً مِنْ حَبَائِلِ غُرُورٍ وقَوْلِ زُورٍ. قَدْ حَمَلَ الْكِتَابَ عَلَى آرَائِه، وعَطَفَ الْحَقَّ عَلَى أَهْوَائِه. يُؤْمِنُ النَّاسَ مِنَ الْعَظَائِمِ، ويُهَوِّنُ كَبِيرَ الْجَرَائِمِ. يَقُولُ أَقِفُ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ وفِيهَا وَقَعَ. ويَقُولُ أَعْتَزِلُ الْبِدَعَ وبَيْنَهَا اضْطَجَعَ. فَالصُّورَةُ صُورَةُ إِنْسَانٍ والْقَلْبُ قَلْبُ حَيَوَانٍ. لَا يَعْرِفُ بَابَ الْهُدَى فَيَتَّبِعَه، ولَا بَابَ الْعَمَى فَيَصُدَّ عَنْه، وذَلِكَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ".

استخلاص العبر من القصص يكون عبر التفكر فيها، وتعميم نتائجها، واستنباط الكليات من جزئياتها. هذا ما يمكن أن نستفيده من قوله تعالى: ﴿ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.      
 

شاعر وأديب