العلم في خدمة الظلم ( 1 من 3 )

 

 

 

 

﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) الأعراف.

من أسوأ ما تبتلى به أمة من الأمم أن يتحول علماؤها ومثقفوها إلى كهنة في معبد السلطة، يسبحون بحمدها، ويحرفون الكلم عن مواضعه خدمة لأهدافها. إنهم بذلك يتحولون إلى الضد من دورهم المناط بهم في توعية الأمة وتنويرها، فيصبحون أداة التجهيل والتضليل. ولذا ذم القرآن العلماء الساكتين عما يحدث في مجتمعهم من المنكرات، المكتفين بدور المتفرج. يقول تعالى: (لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) المائدة: 63
يصف نبي الله عيسى علماء السوء وصفا معبرا، يقول: مَثَلُ عُلَمَاءِ السَّوْءِ مَثَلُ صَخْرَةٍ وَقَعَتْ عَلَى فَمِ النَّهَرِ؛ لَا هِيَ تَشْرَبُ الْمَاءَ وَلَا هِيَ تَتْرُكُ الْمَاءَ يَخْلُصُ إِلَى الزَّرْع‏.

لقد واجه موسى عدة قوى كفرعون وهامان وجنودهما وقارون. وكان ممن واجه أيضا من تتحدث عنه الآيتان هنا بوصفه (الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها)، فهو نموذج لعلماء السوء الذين يشترون بآيات الله ثمنا قليلا، يبيعون دينهم وضمائرهم من أجل مكاسب دنيوية زائلة.

الروايات ذكرت أن المنسلخ من آيات الله اسمه (بلعم بن باعوراء)، وأنه قد وصل إلى مرتبة ومقام عاليين. جاء في تفسير القمي: "عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا ‏ أَنَّهُ أُعْطِيَ‏ بَلْعَمُ‏ بْنُ بَاعُورَاءَ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، فَكَانَ يَدْعُو بِهِ فَيُسْتَجَابُ لَهُ. فَمَالَ إِلَى فِرْعَوْنَ فَلَمَّا مَرَّ فِرْعَوْنُ فِي طَلَبِ مُوسَى وَأَصْحَابِهِ، قَالَ فِرْعَوْنُ لِبَلْعَمَ: ادْعُ اللَّهَ عَلَى مُوسَى وَأَصْحَابِهِ لِيَحْبِسَهُ عَلَيْنَا. فَرَكِبَ حِمَارَتَهُ لِيَمُرَّ فِي طَلَبِ مُوسَى وَأَصْحَابِهِ، فَامْتَنَعَتْ عَلَيْهِ حِمَارَتُهُ فَأَقْبَلَ يَضْرِبُهَا، فَأَنْطَقَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَتْ: وَيْلَكَ عَلَى مَا تَضْرِبُنِي؟ أَتُرِيدُ أَجِي‏ءُ مَعَكَ لِتَدْعُوَ عَلَى مُوسَى نَبِيِّ اللَّهِ وَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ؟! فَلَمْ يَزَلْ يَضْرِبُهَا حَتَّى قَتَلَهَا، وَانْسَلَخَ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ مِنْ لِسَانِهِ، وَ هُوَ قَوْلُهُ‏ ﴿فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ. وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ‏ وَهُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ."

وقفات:

  • كما ندرس تجارب الناجحين الذين ساروا حتى نهاية الطريق بكل ثبات وعزيمة وإصرار، ينبغي أيضا أن ندرس تجارب الفاشلين الذين تساقطوا في الطريق نتيجة إغراء هنا أو حصار هناك.
  • قال صاحب المفردات في غريب القرآن:" النبأ خبر ذو فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظن ، ولا يقال للخبر في الأصل نبأ حتى يتضمن هذه الأشياء الثلاثة". ونستفيد من هذا أن علينا أن نبحث في التاريخ عن الأخبار المتضمنة هذه الأمور، وأن نقوم ببثها ونشرها في المجتمع حتى يكون على وعي تاريخي يَعبُر به إلى مستقبل أفضل. أما الانشغال بالسفاسف والتوافه فليس من دأب المجتمعات الجادة.
  • الإنسان بحاجة دائمة إلى مراقبة ذاته، وإلا فإنه سيكون عرضة للانحراف حتى لو بلغ مرتبة عالية أو مقاما ساميا بسبب علمه ومجاهداته، فإن ذلك لا يعني كونه في مأمن من خطر الانزلاق. فكما يحتاج الوصول إلى القمة إلى جهد عظيم ويقظة شديدة، كذلك يتطلب الثبات جهدا أكبر ويقظة أشد.
شاعر وأديب