إستراتيجية العدو . كفى إستغلالاً !!

 كما هو معروف فإن من أدوار الوجيه مهما إختلف مجال وجاهته ، ومهما صغر أو إتسع مسرح إدارته ، ومهما إرتفع أو إنخفض سقف مسئوليته ، أن يعمل على تعزيز علاقة أتباعه ومريديه مع من حولهم من المكونات الإجتماعية المختلفة ، وذلك في إطار سعي الجميع لتحقيق المصلحة العامة وتلبية متطلبات المجتمع والمحافظة على النسيج الإجتماعي من التفكك أو التمزق ، وإشباع إحتياجاتهم النفسية والإجتماعية ، وتمكينهم من القيام بأدوارهم السسيولوجية والخدمية التي يتطلعون إليها وتتوافق مع إمكانياتهم المعرفية ، ومهاراتهم العملية التي يجب أن يكونوا بالضرورة قد سبق إعدادهم وتهيئتهم للقيام بها وتحمل مسئولياتها في إطار التساند الوظيفي ، والتكامل العضوي مع سواهم من أفراد المجتمع ، فكما يقولون : ( المجتمع يصنع أفراده ) .

 إلاَّ أن ما يخدش تلك المهام الجليلة ، ويشوه صورتها الناصعة الجميلة ، ويجعلها تنحرف عن مقاصدها السامية النبيلة هو : غياب أو ضعف ( نظرية الإدارك أو التفكير الإستراتيجي ) عند بعض القادة أو الوجهاء الإجتماعيين – إذا صح لنا إطلاق هذا المفهوم عليهم مجازاً ، فنرى بعضهم بقصد أو بدون قصد ( الله يعلم ) مع ميلي الأخذ بحسن النية قد إتخذ من إستراتيجية العدو وسيلة للحفاظ على تماسك من حوله ، وعدم إنصرافهم عنه إلى سواه ، ومن أجل ذلك تراه يسوِّق لفكرة ( العدو المتربص ) بطرق متعددة ، مباشرة وغير مباشرة في كل مناسبة تجمعه مع أتباعه أو من يحيطون به . فلا يلبث أن يختلق وجود ذلك ( العدو الهلامي ) الذي ربما لا وجود له على الإطلاق - إلاَّ في فكره - إنما إقتضته الضرورة ليؤدي دوراً ويحقق أهدافاً يصعب تحقيقها لو خلت الساحة من وجوده ،          أو تضاءل نفعه أو قلَّ مردوده ، أو تم تضييق مساحته وحدوده ولو كان وهمياً لا يهم !!

 الأمر لا يقف – أيها الأحبة – عند هذا الجانب فحسب . بل ربما نلحظ هذا التوجه المقيت في سلوك بعض الآباء الذين يعمدون إلى تفخيخ عقول أبنائهم وتحذيرهم من الآخرين وتصويرهم وكأنهم ذئاب سوف تنقض عليهم بين لحظة وأُخرى، وتربيتهم بأن الحياة كالغابة : ( فإذا لم تكن ذئباً اكلتك الذئاب ) ولذلك نجد هؤلاء الأبناء المساكين قد فقدوا الثقة في أنفسهم والآخرين ونراهم منعزلين عن التفاعل في الحياة الإجتماعية ومتوجسين وحذرين في علاقاتهم حتى مع أقرب المقربين إليهم ، كما يصعب على الآخرين إقامة علاقات تبادلية أخوية صادقة معهم نظراً للتشويه الكبير والضبابية التي تتصف بها نظرتهم للناس فكل المسافات التي يحتفظون بها في علاقتهم مع غيرهم هي ذات أبعاد أفقية وعرة تستعصي على من أراد تعبيدها أو الإختصار منها . والمشكلة الكبرى أن هؤلاء الأبناء الذين تشبعوا بهذا التفكير المتشكك والمرتاب سيواجهون بالضرورة صعوبة بالغة في بناء علاقات تفاعلية ناجحة حينما ينخرطوا في سوق العمل أو يصبحوا أزواجاً أو أرباب أُسر في المستقبل ناهيك عن عدم الإنسجام مع الأطياف المختلفة على مستوى الوطن  

 والحال نفسه ينسحب على بعض المدراء والمشرفين في بيئة العمل . فلا يلبث من شرب من نهر الشك وآمن بإستراتيجية العدو إلاَّ أن يشوه فطرة من يرأسهم وتنبسط سلطته الوظيفية عليهم وذلك بتحذيرهم من المنافسين وتصويرهم بأنهم أعداء النجاح الذي تحققه إدارته ويجب محاربتهم ( بالطريقة المناسبة ) وعزلهم ومقاطعتهم وتربص الدوائر بهم والتقليل من إنجازاتهم ، وتشويه سمعتهم إن لزم الأمر . فالغاية تبرر الوسيلة !!   

 وأينما كان مسرح ومجال تطبيق تلك الإستراتيجية العدائية الممقوتة ، ومهما إحتفى أنصارها بالأهداف التي حققوها من جراء ذلك ، ومهما حققته لهم من علوٍ في الكعب  وأسبقية في الصدارة ، وارتفاع في الشأن والمكانة ، فإن ذلك مآله إلى  زوال ، ومرده إلى التراجع والإنحسار ، لأن هذه الصناعة الفاسدة لا تحتاج إلى جهد وفير ، بل يمكن بلوغها بأخف الجهود وأقل مجهود فهي لا تحتاج إلاَّ إلى سوء التصرف وفداحة التدبير واللامبالاة ودفن الضمير .

 فيجب علينا أن لا نضجر من وجود هذه الفئة من أعداء الوفاق ، والحمد لله إنهم قلة لا تأثير لهم وإن عظُم سلاحهم ، وبرعت حيلتهم ، وتعددت أساليبهم ، بل يجب علينا أن نتقدم لهم بالشكر الجزيل على فرص التدريب التي منحتنا إياها تصرفاتهم ، وجعلتنا نكتشف أين نقف ؟ ومع من نتعامل ؟ وأي إتجاه نسلك ؟ ونحو أي هدف نسير ؟ إنهم فقاعات صابون ، وزوبعة في فنجان  . فحتى وإن وفرت لهم تلك السياسة البائسة نجاحاً ما فلا يلبث أن يتلاشى ويندثر ، كما لو حشدت لهم أيضاً عصبة من حولهم فسرعان ما تنفك وتنصرف عنهم لأن النار لا تورث إلاَّ الرماد . وكما قال الباري عز وجل في محكم كتابه المجيد : ﴿ اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا      (43) سورة فاطر .

 إن هذا الفشل الذريع في تحقيق المكانة ، وفرض الإحترام ، وبسط النفوذ ، وتحقيق التماسك ، بالطرق المعتبرة المتوافقة مع ناموس الحياة والفطرة الإنسانية ، والأخلاق الإجتماعية الفاضلة ، إنما ينم عن فساد في النية ، وتآكل في الضمير ، وإنحراف في الهدف ، وعجز في الإدارة ، واعوجاج في الإسلوب ، حيث لا يستطيع كائنٌ من كان أن يستمر في إستغفال الآخرين ، واستغلال مصداقيتهم ، وحُسن نيتهم ، وعمق حماسهم ، وشدة إندفاعهم ، وتغييب وعيهم ، إلى أبد الآبدين . فلا بد وإن يأتي يوم ينكشف فيه أمره ، وينحسر عذره ، ويقَلّ قدره ، عندما يكتشف من حوله أن ذلك العدو الذي أرعبهم بوجوده ردحاً من الزمن ، وأخافهم بوعيده في السلم والمحن . لا وجود له على أرض الواقع البته ، وقد تبخر في أول لحظة صدق مع الذات والآخرين . دمتم أحبائي واعين ، وأصدقاء صدوقين صادقين مصدقين . والله يحفظكم .                                      

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 14
1
ana
[ أم الحمام - القطيف ]: 15 / 7 / 2009م - 6:24 م
أخي الحبيب/ أباعلي _أعتذرأولا عن المشاركه المستمره هذه الفترة لانشغالي مؤقتا-أمابخصوص المقال أشير إلى أمرين:-
1- كل يغني على ليلاه0
2-مابني على باطل فهو باطل 0
ولايصح إلا الصحيح -سلمت أناملك وأنارت الطريق أفكارك -مع تحيات ana
2
أحمد المرهون
[ أم الحمام - القطيف ]: 15 / 7 / 2009م - 7:08 م
أستاذنا الفاضل ...جزاك الله خيرا... فما دمت وامثالك يبثون فينا الوعي فلا تخف على أبناء مجتمعك ...فقط واصل ..وأثر النقاط الحساسة ...وجهنا لاقتناص الفرص التدريبية (كما اسميتها ) ..ودعنا نواجه هذا العدو ...

تحياتي لك
3
المستقل
[ ام الحمام - القطيف ]: 16 / 7 / 2009م - 1:27 ص
عزيزي الغالي الأستاذ أبو علي كأنما نطلق على لسانك روح القدس عند تشخيصك لهذا المرض العضال. من المؤسف أن من يتبنون استراتيجة العدو من هم في ظاهر الأمر يمتلكون قوه إما على صعيد المجتمع كالوجيه أو على صعيد الاسره كالأب أو على صعيد الوظيفة كا لمسئول و لكن لو فتشنا في أعماق هؤلاء لوجدنا ترهل ثقافي و ضعف في الشخصية و تراكم كم من الأمراض النفسية كالغيرة و حب الذات المفرط و داء العظمة الهش . كل هذه المسببات تجعل منهم لا يمتلكون استراتيجيه واضحة للتعاطي مع مجريات الأمور مما يطرهم حبهم في البقاء متربعين على عروشهم اعتماد ثقافة العدو كا استراتيجيه ثابتة تبرر لهم و لمن يعيشون في كنفهم استمرارية الصراع مع الآخرين . ما هو محزن بأن البعض لا يمكن له أن يعمل في أي حقل من الحقول إلا من خلال ثقافة وجود عدو لا بد من محاربته كأنما أصبحت هذه الاسترتيجه إلى طبيعة متأصلة في ذاته من خلال تقادم الزمن و هو بتعاطي مع هذه الاسترتيبجيه . كفانا و إياكم هذا المرض و شكرا لقلمك السيال و لفكرك المعطاء يا أبا علي .
4
ابراهيم بن علي الشيخ
[ القطيف - أم الحمام ]: 16 / 7 / 2009م - 2:20 ص
أخي العزيز : ana
مما لا شك فيه إنني والقراء نطمع في مشاركتك المستمرة وتعليقاتك الصائبة بالرغم من أنها مقتضبة ولكن لك العذر لإنشغالك وكان الله في عونك ووفقك لكل خير .
5
ابراهيم بن علي الشيخ
[ القطيف - أم الحمام ]: 16 / 7 / 2009م - 2:30 ص
الأخ الفاضل الأستاذ / أحمد المرهون
أشكرك على مداخلتك وثنائك على ما أكتب - بتوفيق من الله - وأنتم من توجهونني لتلمس ( النقاط الحساسة ) كما أسميتها وطرحها للنقاش بدلاً من تجاهلها مع إيماني بأن أكبر عدو للإنسان هو نفسه . سلمك الله ونصرك والمؤمنين على الأعداء أينما وجدوا . ولك تحياتي
6
ابراهيم بن علي الشيخ
[ القطيف - أم الحمام ]: 16 / 7 / 2009م - 6:25 ص
إلى صاحب الرؤية الثاقبة الأخ : المستقل
كم أنت رائع في مداخلاتك وتعليقاتك التي تدفعني وتحفزني على التنقيب المستمر في الحقل الإجتماعي للبحث عن الأفكار التي تهديني إياها مفرداتك الرصينة ، وصراحتك المسؤولة ، فلك مني جزيل الشكر والإمتنان يامن بت نديماً إلكترونياً يؤنسني ويضيئ أحرفي التواقة للقائه في كل ليلة خميس .
7
احمد العزيز
[ السعودية - القطيف ]: 18 / 7 / 2009م - 7:45 م
نشكر الأستاذ ابراهيم وليسمح لنا بهذا التعقيب البسيط .......فعلا هي استراتيجية تهدف الى التسيد والتسلط وترهيب المحيطين بخطر الآخر , ونلحظها في وضوح أكثر في بعض رجال الدين والساسة .
فرجل الدين أو السياسة الذي يهول من خطر امريكا وشرورها ثم يقيم علاقة سرية معها أو يصل لسدة المسؤولية عن طريقها هو في الحقيقة يتبع هذه الاستراتيجية ولكن بوعي وادراك تبعا لمصلحته .
8
السيد شبر الشاخوري
[ التوبي - القطيف ]: 19 / 7 / 2009م - 2:08 ص
أرحب بالأستاذ إبراهيم الشيخ أبو علي وأشكره على هذا الطرح المتميز

لا شك أن هناك أعداء حقيقيين لكل مشروع ولكن غالبية الأعداء وحجم والعداء ونوايا العداء أكثرها وهمية يختلقها القائد غير الكفؤ والأناني

وكما تفضلتم ما بني على باطل سوف ينهار يوما ما ويكتشف أتباعه أنهم مكذوب عليهم

أرجو ان تفصل في المقالة القادمة إنشاء الله عن كيفية تقييم المتبوع للتابع والأساليب التي تمكنه من معرفة العدو الوهمي من الحقيقي بحيث يستطيع من خلال تقييمه للوضع الإنفصال أو المواصلة مع الوجيه الذي إتبعه

وما هي الوسائل الأخرى التي يمكن أن يشجع الوجيه أتباعه ويحمسهم من غير خلق عدو وهمي

نتابع بشوق لمقالاتك الجميلة أيها الأستاذ الفاضل
9
ابراهيم بن علي الشيخ
[ أم البحمام - القطيف ]: 19 / 7 / 2009م - 7:26 ص
الأخ العزيز / أحمد عبد العزيز
أشكرك على تعليقك ومتابعتك لما أكتب . وأحترم رأيك الذي أبديته في مداخلتك ، ولك تحياتي
10
ابراهيم بن علي الشيخ
[ القطيف - أم الحمام ]: 19 / 7 / 2009م - 12:22 م
الأخ الناشط الإجتماعي : السيد شبر الشاخوري
مداخلتك القيمة تأخذ المداد لآفاق أرحب ، ومتابعتك الواعية تحفز على مواصلة الإبحار والغوص إلى قاع هموم المجتمع . وما اقترحته محل إهتمامي إن شاء الله . أشكرك على ثقتك ولطفك .
11
Sm!le
[ KSA - Qatif ]: 19 / 7 / 2009م - 10:42 م
استاذي الفاضل
شكرا لكم لاتاحتكم لنا مثل هذه الفرص لننهل من نور معرفتكم ورجاحة عقلكم..

يأسفني ان نعيش في بيئة يتواجد بهامثل هذه الشخصيات التي هي في حقيقة امرها عناصر هادمه للمجتمع ومفككه لترابطها.من منظوري الشخصي ارى انه هذه الشخصيات ماهي الا نتيجة لتربية ابائهم بالدرجة الاولى والاصدقاء من الدرجة الثانية..فالطفل كالتربة الخصبة تجني ماتزرع فيها ويكبر الطفل على ماتلقى من الدروس "من تربى على شي شاب عليه" وهكذا يبدأهذه الجانب من الشخصيه بالظهور في جميع نواحي حياته وللاسف "ان لم يدرك خطورة الامر"سوف ينقل هذه الخصله لاجياله بل لمن حوله..
لذا ارجو من الاباء ان يحسنو في تربية ابنائهم ومن الكبار ان يغيرو من انفسهم فنحن عماد هذا المجتمع ومكنونه.
12
ابراهيم بن علي الشيخ
[ القطيف - أم الحمام ]: 20 / 7 / 2009م - 2:14 م
الأخ الفاضل : Sm!le
أشكرك على مداخلتك ، ووجهة نظرك محل تقديري ، إنما قولك ( من شب على شيئ شاب عليه ) يحتاج إلى إعادة نظر منك . لأن الإنسان هو المخلوق الوحيد القادر على التغيير والقابل للتطور والرقي إذا ما رغب ذلك وعمل على تحقيقه . أشكرك مرة أخرى وأتمنى تواصلك الطيب . ولك تجياتي
13
جعفر قوأحمد
[ أم الحمام - القطيف ]: 25 / 7 / 2009م - 7:45 ص
العم الغالي أبو علي
سلمت اناملك وأفكارك النيرة
صحيح ما ذكرت. أود التعليق والإضافة إلى ما تفضلت في جزئية بسيطة
إننا نعيش وضعا مزريا في مجتمعاتنا حيث اصبح المرء لا يأمن جاره إما لتجربة مشابهه او قصه سمعناها او اسطورة نسجتها عقول المهووسين.. مصورين كل من حولهم بالأعداء والإستغلالية
كمن يصور كافة الأيدي العاملة من الجاليات العربية والإسلامية بالإستغلاليين والنصابين والمخادعين.
ولا ننسى ما زرعه الآباء في عقول أبنائهم من رعب وكره وضغينه ضد المخالفين لهم في المذهب والمفكر والطبقة المعيشية والفكرية.
أما القادة الإجتماعيين فتحزبوا في ميليشيات فكرية تقصف مخالفيها بكل ما هو مسيئ ومهين

مرة أخرى اشكر لك هذا الطرح الجميل والأسلوب الجذاب
ودمتم برعاية الله وحفظه
تحياتي جعفر قوأحمد
14
ابراهيم بن علي الشيخ
[ القطيف - أم الحمام ]: 25 / 7 / 2009م - 2:01 م
الأخ الموفق : م . جعفر قو أحمد
إضافتك الرائعة تنبئ عن فكر إستقرائي رصين ، وأدبك الجم يعكس قيمك الراسخة ، ووعيك المشع يجعلني طماعاً في تواصلك الذي يسعدني . وفقك الله وأسعدك ما حييت . وتقبل مودتي ومحبتي .
إستشاري سلوك وتطوير موارد بشرية