الأفعال الفرعونية

 

 

 

﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) القصص

بعد التشويق الذي أحدثته الآية الثالثة من هذه السورة، تأتي هذه الآية والآيات بعدها لتبين لنا ما أجملته تلك الآية (مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ). وتبدأ بالحديث عن فرعون واصفة سلوكه المستعلي على شعبه، وما يفعله بهم، كل ذلك بصيغة التوكيد حيث الجملة مبدوءة بـ ﴿إِنَّ.

وبهذا يعلمنا القرآن التركيز على الأفعال الفرعونية دون الانشغال بالبحث عن اسم فرعون الحقيقي، إذ كل واحد من ملوك مصر في القديم كان يسمى (فرعون). التركيز على الأفعال يجعل الآية تتحرك نحو الواقع المعاصر لنكتشف فرعون أو فراعنة العصر، ولنحدد الموقف من كل سلوك فرعوني.

أما الأفعال التي ذكرتها الآية فهي:

1- العلو في الأرض، والمقصود به الاستعلاء والاستكبار على الآخرين، إذ يصبح هو فوقهم يقهرهم بسلطانه وجبروته، ويصبح الآخرون مجرد أتباع لا حقوق لهم.

والمتتبع للآيات القرآنية الشريفة يلحظ العلاقة بين العلو في الأرض والفساد، إذ العلو مصدر الفساد وأجلى مصاديقه. يقول الحق تعالى:

    • ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ
    • ﴿وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً
    • ﴿وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ

فحين يشعر الطاغية أن لا قوة فوقه، ولا يستطيع أحد محاسبته، فإنه سيمارس كل أشكال الفساد من تبديد للثروات؛ كما فعل فرعون حين أمر هامان أن يبني له صرحا دون أي اعتبار للأموال العامة التي سينفقها في بناء الصرح؛ ومن تبديد للطاقات البشرية كما سيأتي في النقطة الثانية.

بقي أن نشير إلى أن إرادة العلو في الأرض يمكن أن يبتلى بها غير الفراعنة المتسلطين على رقاب الناس،إذ كل صاحب سلطة – مهما صغرت- معرض لأن يكون مشروع (فرعون).

2- إحداث الفرقة بين أبناء الوطن الواحد من خلال تمزيقهم إلى أحزاب وفئات وجماعات متناحرة،(كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) . هكذا فعل فرعون حين (جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) أي طوائف متفرقة لا يجمعها جامع.

يتحدث الشيخ الشعراوي في خواطره القرآنية عن السبب في ذلك، يقول: ولا شك أن جعل الأمة عدة طوائف له ملحظ عند الفاعل، فمن مصلحته أن يزرع الخلاف بين هذه الطوائف ويشغل بعضها ببعض، فلا تستقر بينهم الأمور، ولا يتفرغون للتفكير فيما يقلقه ويهز عرشه من تحته، فيظل هو مطلوبا من الجميع . فهي إذن سياسة ( فرق تسد ) لعبة موغلة في القدم يتقنها الطغاة، وتنطلي على الكثيرين إلا من رحم ربي.

إن أعظم ابتلاء يمكن أن يتعرض له وطن ما أن يقسم إلى طوائف منغلقة على ذاتها وهوياتها الصلبة التي لا تقبل المرونة ولا تعترف بالآخر لأن ذلك يؤدي إلى فتنة داخلية واحتراب لا يربح فيه إلا الطاغية.

وقد حذر الله تعالى من عذاب الحرب الأهلية في قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ

3- استضعاف طائفة خاصة: ﴿يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ.

هذه الطائفة هي بنو إسرائيل الذين قدموا إلى مصر أيام النبي يوسف عليه السلام واستقروا بها، ثم تناسلوا وتكاثروا، ولكنهم ظلوا معزولين عن الأقباط سكان مصر الأصليين بسبب سياسات التفرقة والتمييز الطائفي.

لقد تعرضت هذه الطائفة لاستضعاف فوق الاستضعاف الذي يتعرض له الباقون، حيث كانت الممارسات الشنيعة ضدهم واضحة وفاضحة، إذ كانوا معرضين للانتهاكات من الأقباط سكان مصر الأصليين دون أي رادع. فهم العدو المشترك كما يصوره لهم فرعون. وهذا ما فسرته آية أخرى : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)

4- ذبح الأبناء وامتهان النساء: ﴿يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ

أي إنه يذبح الأبناء ويستبقي النساء للخدمة عند الأقباط. أما لماذا يفعل ذلك، فهذا ما توضحه الرواية التالية المروية عن الإمام الصادق :
(أَمَّا مَوْلِدُ مُوسَى ع فَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا وَقَفَ عَلَى أَنَّ زَوَالَ مُلْكِهِ عَلَى يَدِهِ أَمَرَ بِإِحْضَارِ الْكَهَنَةِ فَدَلُّوهُ عَلَى نَسَبِهِ وَأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ يَزَلْ يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِشَقِّ بُطُونِ الْحَوَامِلِ مِنْ نِسَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى قَتَلَ فِي طَلَبِهِ نَيِّفاً وَعِشْرِينَ أَلْفَ مَوْلُودٍ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إِلَى قَتْلِ مُوسَى بِحِفْظِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِيَّاهُ )، فقد كانت البشارة متداولة بين بني إسرائيل بولادة نبي اسمه موسى بن عمران ينقذهم ويخلصهم من العذاب المهين. ففي رواية عن الإمام الصادق ( ع )، قال: إن يوسف بن يعقوب (صلوات الله عليهما) حين حضرته الوفاة جمع آل يعقوب- وهم ثمانون رجلا- فقال: إن هؤلاء القبط سيظهرون عليكم، ويسومونكم سوء العذاب، وإنما ينجيكم الله من أيديهم برجل من ولد لاوي بن يعقوب، اسمه موسى بن عمران .

نلاحظ أن القرآن عبر عن الوحشية والهمجية التي كانت تمارس ضد بني إسرائيل في أكثر من آية بصور متقاربة:

    • ﴿يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ
    • ﴿يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ.

فهم يتفننون في أساليب التعذيب المعبر عنها بـ (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) الذي يتضمن الذبح والقتل وانتقاص الكرامة وغيرها.

أخيرا نأتي إلى ذيل الآية ﴿إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ليبين أن هذه الأفعال صدرت وتصدر وستصدر من كل من دخل في زمرة المفسدين.
في سورة الدخان قال عن فرعون:﴿إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ . ثم فسر في سورة الشعراء ﴿المسرفين بقوله تعالى: ﴿وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ . الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ .
ففرعون – وكل فرعون – مسرف متجاوز للحدود، ومبالغ في إفساد البلاد والعباد، بل لا يرجى منه صلاح أبدا، فطبيعة المسرفين واحدة ﴿يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ.

شاعر وأديب