تثير قضية كتابة تنوين النصب أزمة بين العلماء ،تتمثل في كتابتها على الحرف الصحيح قبل الألف ( كتابًا ) أو كتابتها على الألف مباشرة ( كتاباً )، والقضية قديمة جدًا منذ أن ابتكر أبو الأسود الدؤلي ( ت 69 هـ ) النقط على الأرجح ، حيث قال لكاتبه : " خذ المصحف واصبغه بصبغٍ يخالف المداد ، فإذا فتحتُ شفتي فانقط نقطة واحدة فوق الحرف ، وإذا ضممتها فاجعل النقطة إلى جانب الحرف ، وإذا كسرتها فاجعل النقطة في أسفله ، فإن اتبعت شيئًا من هذه الحركات غنة ( يقصد التنوين ) فانقط نقطتين " فجعل علامة التنوين تكرار الحركة السابقة ( فتحتين – ضمتين – كسرتين ) إحداهما للحركة الإعرابية والأخرى للتنوين .
وقد أوضح لنا الداني في كتابه ( المحكم في نقط المصاحف ) هذه المشكلة وبيّن اختلاف العلماء حولها فقال الداني : ذهب بعضهم بجعل النقطتين الحمراوتين على الألف ( غفورا ) ، وهذا مذهب اليزيدي وعليه نقاط المدينة والكوفة والبصرة ، وذهب آخر بجعل النقطتين على الحرف الصحيح الذي قبل الألف ( عليما ) وهذا مذهب الخليل وأصحابه ، وذهب آخرون بجعل إحدى النقطتين على الحرف الصحيح الذي قبل الألف والأخرى فوق الألف ( عذابا ) ، وذهب آخرون بجعل نقطة على الحرف الصحيح الذي قبل الألف ونقطتين على الألف ( عادا ) ، ثم قال الداني وذهب إلى هذين الرأيين الأخيرين قومٌ من المتأخرين لا نعلم إمامًا لهم . ثم عرض الداني حجج القائلين بهذه الآراء ، فقال : إن حجة من رسمها على الألف لأن رسمها على الحرف الصحيح قبل الألف يبقي الألف عارية من العلامة وتصبح غير دالة على معنى ، وأما حجة من رسمها على الحرف الصحيح الذي قبل الألف لأنه يرى التنوين عبارة عن حركتين إحداهما للحركة الإعرابية والأخرى للتنوين فينبغي وضع الحركة على محل الإعراب والثانية توضع فوقها وذلك للتلازم بين الاثنتين ، وأما حجة من يكتبها نقطة على الألف والأخرى على الحرف الصحيح الذي قبل الألف لأن الأولى محل الإعراب والثانية للتنوين .
هذا ما حدث في المرحلة الأولى ثم جاء إمام العربية الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي آثر أن يسير على منهجية أبي الأسود ولم يستسغ الفصل بين العلامتين المتشابهتين ( علامة الحركة الإعراب وعلامة التنوين ) وذلك لشدة الارتباط بينهما فجعل الضمتين على الحرف المنون والكسرتين كذلك وبقيت مشكلة الفتحتين قائمة ويبدو لي أنه لولا كراهية الفصل بين الحركتين لوضعت الأولى على محل الإعراب والثانية على الألف وبهذا تنتهي المشكلة . لكن الخليل ذهب إلى وضع الفتحتين على الحرف المنون وليست على الألف ، وكان بإمكان الخليل أن يبتكر علامة أخرى للتنوين غير علامة الإعراب ولو فعل ذلك لانتهت المشكلة .
وعلى مذهب الخليل سارت المصاحف الشرقية ولاسيما التي تعتمد رواية حفص عن عاصم . والمتأمل في كتب العرب القديمة يرى أن هناك بعض القبائل العربية كانت تقف على المنون بإبدال التنوين بحرف من جنس حركة الإعراب كما هو في لغة الأزد فيقولون ( جاء زيدو – رأيت زيدًا – مررت بزيدي ) . وقد ذكر ابن مالك في شرح الكافية أن قبيلة ربيعة كانت تقف على المنصوب بالتسكين ( رأيت زيدْ ) ، وقد علق ابن عقيل على هذه اللغة بقوله " والظاهر أن هذا غير لازم في لغة ربيعة ففي أشعارهم كثر الوقف على المنصوب المنون بالألف فكأن الذي اختصوا به جواز الإبدال " وقد تحدث النحاة كثيرًا عن أسباب عدم إبدال المرفوع واوًا أو المكسور ياءً ، فهذا ابن جني في كتابه ( سر صناعة الإعراب ) يقول : تبدل النون ألفًا بالوقف لمشابهة النون بما فيها من الغنة والزيادة إلى حرف الألف وقد سبقه إلى هذا الرأي أبو علي الفارسي. وقال سيبويه أيضًا عن ذلك بسبب خفة الألف بعد التنوين وثقل الواو والياء ، ولأن العرب تثبت الألف في المواضع التي يحذفون فيها الياء والواو فمن حذفهم الياء و ( الكبير المتعال ) ؛ إذ أصلها (المتعالي) ومنه قول الشاعر :
وأخو الغوان متى يصرمنه ويعدن أعداء بعيد وداد
( الغوان ) أصلها ( الغواني ) . وعلل بعض العلماء لعدم إبدال الواو أو الياء عند التنوين حتى لا يشبه آخر الاسم آخر الفعل مثل ( محمدو – يدعو ) مما يسبب اللبس ، وقال بعضهم إنه ليس في لغة العرب اسم مختوم بالواو ، غير أن هذا ليس بناهض في رأينا ؛ إذ رأينا أسماء عربية مختوم بالواو مثل ( عدْو – قِنْو – صِنْو ) ، وقال آخرون إن عدم إبدال التنوين بالياء كي لا يلتبس الأمر بياء المتكلم عندما تقول ( مررت بزيدٍ ) فلو كتبتها ( بزيدي ) فهي تلتبس بـــ( غلامي ) . وبعد هذا كله نستطيع أن نصنف موقف العلماء المتقدمين والمتأخرين من قضية مكان وضع تنوين المنصوب إلى رأيين:
وإن تقف بألفٍ في النصب هما عليه في أصح الكتب
سواء إن رُسم أو جاءا وهو ملحق كنحو ماءا
وإن يكن ياءً كنحو مفترىً هما على الياء كذا النص سرى
ويشرح التنسي هذه الأبيات " واختياره لهذا الوجه اقتداءً فيه بالداني وأبي داود وهو مذهب أبي محمد اليزيدي وجرى به عمل الجمهور وعليه نقاط المدينة والكوفة والبصرة ، ووجهه أنه لما تقررت ملازمة التنوين للحركة بحيث لا يفترقان وكان الألف علامة التنوين في الوقف استدعى كون علامة التنوين من الحركتين عليه ؛ إذ هي علامة الوصل وهو علامة الوقف ، والحرف يستدعي كون حركته فوقه ، والفرض أن الحركة والتنوين متلازمان فلم يكن بد من تعرية أحدهما وجعل الحركتين على الآخر ؛ فاختيرت جعلهما على الألف محافظة عليه ، ولئلا يتوهم فيه الزيادة إذ لا وجود له في الوصل ، وتعرية الحرف المحرك لا يتوهم معها سوى احتمال كونه ساكنًا " . وقد انتقل الخلاف إلى العلماء المتأخرين فرأى بعضهم أن تنوين النصب يكون على الألف لأن الحرف الذي قبله عليه حركة ؛ غير أن هذا ليس بشيءٍ في رأيّ ؛ إذ إن المنون تنوين الضم والكسر تسبقه حركة مناسبة لجنس التنوين ( محمدُن = محمدٌ ) ( محمدِن = محمدٍ ) ( محمدَن = محمدًا ) ، فلو سلمنا برأيهم السابق فإنه يلزم وضع الألف في جميع أنواع التنوين . وقال آخرون إن وضع التنوين على الحرف الصحيح الذي قبل الألف لا أصل له لأن الحرف الذي قبل الألف دائمًا مفتوح فهو مستغنٍ عن التنوين ، ويبدو لي أن هذا الكلام لا يستقيم لأن هذا الحرف يختلف عن الحرف المنون بالفتح ولو قلنا به لزم أن نضع الفتحة على الحرف الذي قبل الألف حتى مع التنوين ، وهذا لم يقل به أحد .
وأنا من خلال تتبعي للموضوع لم أجد إلا بحثين منشورين يعالجان هذه القضية ، الأول للدكتور ( سعود بن عبد الله آل حسين ) الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، والذي نشره في مجلة الدراسات اللغوية الصادرة عن مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية ، فيه يتبنى كتابة التنوين على الألف مباشرة ، والبحث الآخر للدكتور إبراهيم الشمسان الأستاذ بجامعة الملك سعود بالرياض والمنشور أيضًا في مجلة الدراسات اللغوية وهو عبارة عن رد على بحث الدكتور سعود بن عبد الله آل حسين ؛ إذ يرى الدكتور الشمسان كتابة التنوين على الحرف الذي قبل الألف ، وهذه مقتطفات من بحث الدكتور سعود , ردود الدكتور الشمسان عليه :
هذه تقريبًا خلاصة البحثين علمًا بأن الدكتور سعود رد أيضًا على الدكتور الشمسان في العدد اللاحق ، ومن أراد التوسع فعليه مراجعة تلك الأبحاث .
وفي النهاية حريًا بنا أن نذكر الاستفتاء الذي قدم الأستاذ محمد العدناني صاحب كتاب ( معجم الأغلاط اللغوية المعاصرة ) إلى المجامع اللغوية في كلٍ من القاهرة ودمشق وبغداد والمغرب ، فكانت نتيجة الاستفتاء على النحو الآتي :
وفي الخاتمة قال العدناني : أنا أفضل وضع التنوين أما على الطرف الأيمن ، أو فوق الحرف الصحيح لأن معظم المعاجم وجل أمهات الكتب الأدبية يتقيدن بأحد هذين الرأيين ، وأما قولهم إن الألف هي كرسي للتنوين فهي تظل ألفًا يتعذر النطق بها وبتركها نوفر على أنفسنا زيادة نوع من الألف على أنواعها الأخرى الاثنتين والعشرين . ثم ذكر بعض العلماء الذين ردوا على استفتائه نذكرهم على النحو الآتي:
وفي الخاتمة نرى أنه لا يجوز تخطئة من يكتب بأحد الرأيين لأن هناك من يؤيده ويدعمه بالأدلة ، وإن كنت أفضل أن تكتب على الحرف الصحيح ( كتابًا ) طلبًا لتوحيد الكتابة العربية وفيها متابعة لأمام العربية الخليل والمصاحف و أكثر الكتب الأدبية المعتبرة .