لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ َلَعَلَّكُمْ تَتقون

 لقد أنعم الله سبحانه وتعالى علينا بفضله وكرمه ، بأن فضّل بعض الأيام والليالي والشهور على بعضها البعض ، وكذلك بعض الأماكن والساعات ، حسب ما اقتضت مشيئته وحكمته البالغة ، وذلك ليجتهد عباده في تحصيل رضاه ، والنهل من هذه الفرص التي تفضل بها علينا ، لتصفية النفس وتزكيتها ، وكسر الحجب المادية للوصول بها إلى مرضات الله سبحانه وتعالى والرقي بها إلى الصفاء الخالص ، مما يعكس ذلك على سلوك العبد في تفكيره وعبادته وطريقة التعلق بخالقه.
 فقد خلق الله سبحانه وتعالى الخلق كما قال مولانا أمير المؤمنين على عليه السلام على ثلاثة أصناف:  عالم ربّاني ، ومتعلم على سبيل نجاة ، وهمجٌ رُعاعٌ ، أما العالم الرباني فهو متأمل في ذات الله ، ساهر لمرضات الله ، قائم على طاعة الله ، ومتحر رضا الله في سكناته وحركاته ، أما المتعلم فهو تائب على سبيل نجاة ، يقوم بقدر معرفته ، ويعطي حسب معرفته ، ويطلب العلم حتى يزداد منه معرفة ، أما الرعاع  فهم منهمكون في أمور الدنيا ، غارقون في شهواتها ، همهم مظهر الحياة ، ميولهم محدود على الماديات والمظاهر المادية حدودهم البطن والفرج وما عدا ذلك لا يعنيهم.
 هذه الفرص أو المحطات المختلفة إن صح التعبير لتأخذ بأيدينا مما نحن عليه إلى الأفضل بالخشوع والتوجه والتدبر ، هذه المحطات والأيام الشريفة التي تبدأ بشهر رجب المرجب ثم شهر شعبان وتنتهي بشهر رمضان المبارك ، وما فيها من عطاء رباني وتغذية روحية وتأهيل نفسي  للإقبال على الله سبحانه وتعالى .
 الهدف المنشود في هذه المحطات هو تغيير جوهري في سلوكنا ونمط حياتنا اليومي ، وطريقة تعاملنا مع الله في هذه الأيام ، حيث يبدأ هذا التغيير بطريقة توجهنا لله بصورة مختلفة عن السابق ومتغيرة ، فقد خص الله هذه الأيام بخصائص جزيلة وعظيمة لكي يستفاد منها ، كما أمر باستحباب الصوم فيها لما فيه من فائدة عظيمة ، فالصوم كما هو معروف عنه انه يكسر الشهوات المادية بجميع أنوعها ويجرد النفس من التبعات الشهوية ويؤهلها لان ترتقي لتصل إلى الكمال المأمول.
 شهر رجب هو أول هذه المحطات ، وقد أشبعته كتب الأدعية تمجيدا وذكرا ، وكذلك عمرته  فعمرته كما رواها شيخنا الطوسي قدس سره عنهم – عليهم السلام – أن العمرة الرجبية تلي الحج في الفضل ، فلنجتهد في هذه المحطة بتصفية النفس والتوجه لله سبحانه وتعالى ، وذلك بإحيائه بالعبادة والتقرب فيه حتى نكتب عند الله من الذاكرين والعابدين.
 شهر شعبان هو المحطة الثانية وهو شهر بالغ الشرف والسؤدد ، دلت الروايات الكثيرة على إحيائه وصومه والتقرب فيه ، وكذلك مناسباته الدينية بالغة الشرف ، وهو شهر الحبيب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ويكفي في فضل هذا الشهر الشريف ليلة النصف منه فهي تضاهي ليلة القدر شرفا ورفعة ، ولهذه الليلة أعمال متعددة ، وهي بالغة القدر والشرف، وفيها ميلاد سلطان الدنيا والآخرة .
 شهر رمضان هو المحطة الثالثة وهو سيّد الشهور على الإطلاق ، هو ربيع المؤمنين ، فيه تفتح أبواب الجنان ، تغلق أبواب النيران ، تغل مردة الشياطين ، الدعاء في مقبول ، النوم فيه عبادة ، ومهما قيل فيه قليل  في حقه ولا يفيه ، وهو شهر القرآن وما أدراك ما القرآن.
 الغاية من هذا كله أنه عندما نصل للمحطة الأخيرة وهي شهر رمضان ، تكون النفس قد روضت ودربت وارتقينا بها إلى أعلى مستوى روحي ممكن ،  وكذلك شكلت حسب الدور التوجيهي المطلوب ، بهذا الترويض والتجهيز تكون قد استعدت لوفادة شهر البركة والرحمة بصورة فعلية ، مما يعكس عليها أداءها لهذا الشهر بصورة متقنه.
 كما أن الحرص والاجتهاد في المحطتين الأوليتين ببعض الأذكار والأعمال الواردة ، والنوافل اليومية ، وخصوصا هذه الأعمال الخفيفة كالتسبيح ، التقديس ، التهليل ، والكون على طهارة ، وما شابه ، تؤهل النفس روحيا ، علما بأن هذه الأمور يمكن القيام بها في أي ساعة من ساعات اليوم والليلة ، وكذلك في أي مكان ، وأنها سهلة المراس ولا تحتاج لجهد ولا تعب ، بل تحتاج للتوجه الخالص فقط.
 إذا هذه الأعمال تدخل الخير الكثير والبركة على الروح والنفس ، وكذلك تؤثر عليها تأثيرا وضعيا مباشرا ، وعلى سلوك الفرد الممارس لها ، وهي مدخل التوجه في فتح أبواب التوفيق والعطاء والشهية الروحية ، وتكون المفتاح الأساسي لتوصيل الروح بهذه المحطة وهي في غاية الاستعداد والمرونة ، شفافة مطاوعه قابلة للتشكيل حسب التزود.
 إذا هذه المحطات هي لتجريد النفس وتصفيتها حتى تتوجه وتتمرن وتتجهز لشهر رمضان بكل إخلاص وصدق وإيمان ، وهذا التوجه ينمي فيها العبودية الخالصة والمطلقة لله سبحانه وتعالى ، كي تتوجه لعبادة الله سبحانه وتعالى والوصول إلى رحمته ومغفرته ورضوانه ، فالسعادة كل السعادة هو الرقي بالروح لمثل هذا التوجه ، والمحروم من حرم غفران الله في هذا الشهر الكريم ، بل الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر الشريف.
 من الأدعية الشعبانية (الهي هب لي كمال الانقطاع إليك وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق أبصار قلوبنا حجب النور فتصل إلى معدن العظمة وتصير معلقة بعز قدسك).
التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 2
1
المستقل
[ ام الحمام - القطيف ]: 10 / 7 / 2009م - 2:22 ص
تحيه للكاتب على مقاله الموفق الذي استعرض من خلاله أهمية الانقطاع لله في هذه الأشهر و لكن هل هذا الطرح كفيل بأن يحشد همم العباد لينقطعوا لله ها نحن نصوم سنويا و بمجرد ينتهي شهر الصيام لا يتغير من سلوكياتنا شيء إنا اعتقد بأن هناك خلل في التربية و التوجيه و طريقة مخاطبة عقول و قلوب عامة الناس . من المهم أن تكون وسائل العرض في مستوى وسائل الضد. من المهم أن تحول روايات أهل البيت و تاريخ أهل البيت إلى برامج مدروسة و فاعله . هناك من وسائل الإعلام كفيله بأن تحرف شباب ألامه عن خط السماء. نحن للأسف نظلم أهل البيت عندما نصر على طرحهم بطريقه تقليديه لا تحرك ساكنا و لا تغير من الواقع الخارجي شيء. إنا اعتقد بأن الفلم الصغير في مدته ( ربي ارجعون ) غير من سلوكيات البعض مالم تستطع المنابر تغيره في سنوات
2
علي راضي الطلالوة
10 / 7 / 2009م - 6:02 م
أستاذي الكريم،
تحيه طيبة لمداخلتكم الكريمة ،
أوافقكم في بعض ما طرحتم واشد عليه ، وأختلف معكم في البعض الآخر ، والهدف الأساسي من الموضوع هو نشر الوعي لتعديل السلوك الفردي ولو لفترة مؤقتة ، كما أن سوء تطبيق أي عمل لا يدل على عدم صلاحية المطبق عليه ، دور هذه الجرعات يكون كمضاد حيوي يستمر لقترة معينة وبعدها ينتهي مفعوله ، ومع انتهاء مفعوله يبقي له التأثير الوضعي ، ثم نعود لتكرار نفس الدورة ، وهذا أمر طبيعي وهذه هي سنة الحياة.
فطبيعة النفس تتبدل وتتغير حسب المعطيات حولها ، أما الخروج من رمضان بنفس الشيء الذي دخلت به ، فهذا من واقع التوجه لرمضان ، فعندما تصوم بجوارحك قبل بدنك فلا بد من تحقيق أمر روحي لذاتك ويبقى معك لفترة طويلة ، ولكن عندما تصوم كروتين فهذا لا يغير فيك شيء.

---------------------

كما أن تكرار الدور التثقيفي مهم لأنه في كل مرة يترك بعض الأثر الإيجابي ، ومن هنا جاءت توصيات أهل البيت بالاستغفار بعد كل عمل قبيح لكي يمسح هذا العمل ويستأنف العمل من جديد ، الكمال المطلق لله سبحانه وتعالى ، وساعة صادقة مع الله ممكن أن تغير الشخص إلى رشده وتذيب كل ما مضى.

أكرر شكري لتداخلكم