عواطف في الثلاجة

 لست بصدد حصر هذا المقال في العلاقات الزوجية – رغم أهميتها - وما يمكن أن تتعرض له من برود عاطفي تُسهم بشكل أو بآخر في تجمع كتل الجليد على سطح المودة والرحمة وتتسبب في تجمد المشاعر ، وتكلس الأحاسيس ، وتُسرع في أن يخيم شبح الشيخوخة المبكرة على حياتهما وبالتالي الوصول إلى النتيجة الحتمية - والحال كهذا - وهي الموت البطيء للحب ( لا قدَّر الله ) .
 
 من هذا المنطلق فإنه من النافع والمفيد توسيع دائرة المقال لتشمل جميع العلاقات الإنسانية . فالبرود العاطفي يعتبر من الطبيعة الفيزيائية للأشياء لا سيما البيولوجية منها ، ولكن أن تستمر حالة البرود ، أو أن تكون الصفة المسيطرة على العلاقة ، فذلك ما يحتاج من طرفي تلك العلاقة أفراداً كانوا أو جماعات إلى وقفة مراجعة بدلاً من تقاذف الحجج والإتهامات والدخول في جدلية ( الجاني والضحية ) .

 قليل من الناس من يجيد فن التعبير عن مشاعره لمن يحبه ويهواه ، أو يقتنص الفرصة المناسبة لإبداء ذلك . أما لسيطرة الخجل على سلوكه ، أو لخوفه من التعرض لصدمة عاطفية عندما لا يكون الطرف الآخر على مستوى المشاعر والمسؤولية العاطفية المواكبة لمشاعره . أو تلافياً للإبتزاز العاطفي ، مما يؤدي بالنتيجة إلى الإحجام عن البوح عن المشاعر الدافئة ، وكبتها في اللاشعور الأمر الذي يسبب الضرر الفادح من الناحيتين النفسية والفسيولوجية ، فتتولد في داخلنا مشاعر الكبت والخوف والضيق والشعور بالألم والحرمان ، وعدم الإشباع العاطفي الضروري جداً لننمو ونحيا بأمن وسلام . وهنا أسأل :

• كم مرة أصابك هذا الشعور بالألم والإحباط العاطفي من قريب تحبه وترعاه ؟ أو من بعيد تسعى له وتتمناه ؟
• كم مرة تعرضت للضغط النفسي والإنحباس في المشاعر والأحاسيس حتى كدت تبدو بلا هوية عاطفية ، أو مرجعية إنسانية تحتويك وتحتضنك وكأنك هائم في صحراء مفتوحة لا تعرف لها حدود ، ولا تعلم لها نهاية ؟
• كم مرة إنتابك شعور بالتهميش العاطفي ، والجفاء المشاعري من شخص كنت تضنه أقرب إليك من حبل الوريد ؟
• كم مرة كنت سبباً في ألم الآخرين ، بل وتدمير آليتهم العاطفية – دون أن تدري – أو بقصد الإنتقام والإضرار ( لا سمح الله ) ؟
• كم مرة عايشت حالة إنكسار عاطفي حتى كنت ستذوب تعاطفاً مع صاحبها من فرط حالته وسوء منتهاه ؟

 أعتقد جازماً أنك تستحضر في هذه اللحظة بعض المشاعر السلبية التي أضرت بمنظومتك الدفاعية العاطفية بشكل أو بآخر . وحوَّلتك إلى لحظة عجز بائسة لا حول لك معها ولا قوة حتى اليوم . إنني أشعر بك وأسمع دقات قلبك المرتجفة في حناياك ، وألمس ذلك الهم الجاثم على صدرك ، وأسمع بوضوح تام ضجيج قولونك العصبي خارجاً على أمرك يُمنة ويُسرة فيفرز الأسيد الحارق المارق الذي بلغ الحلقوم ، وكأنك من فقد توأم حياته للتو واللحظة . أراك تحاول الدفع بتلك المشاعر السلبية إلى خارجك ، وتقذف بها إلى الوادي السحيق هناك إلى طي النسيان فترتد لك من جديد ككرة من اللهب متمردة على قرارك لتستقر في ذاكرتك العميقة - المُتعبة أصلاً - بشكل أشدَّ وأقوى .

 أعتذر لك – أيها الحبيب – إن كنت قد أثرت بركاناً ساكناً في داخلك فبدأ يقذف بحممه العاطفية إلى كل أجزاء جسمك المنهوك ، أعتذر إن كنت قد سمحت لنفسي أن أقتحم ( منطقتك الخاصة ) فأتسبب في إستيقاظ هذا المارد النائم في سلام هناك في داخلك . وأعتذر مراراً وتكراراً إن أزاح هذا المقال الخمار عن موقف كان متلفعاً بصبرك وحكمتك .
 عواطفٌ كثيرة هي التي لا تزال متجمدة في الثلاجة بإنتظار أشعة شمس دافئة حنونة تذيب عنها ما تراكم على سطحها من جليد مُميت ، ويضخ فيها الحياة من جديد حيث لا يزال في قلبها خفقة من نبض ، وفي نفسها أمل من رمق .

 أختتم حديثي معكم – أيها الأحبة - بنداء عاجل أوجهه إليكم  بالمسارعة إلى إطلاق سراح مشاعركم النبيلة المحبوسة في داخلكم أما بسبب الخجل ، أو بسبب الخوف من الفهم الخاطئ للطرف الآخر وسوء تفسيره إليها ، أو لخوف من أن يعتري ذات ( الحبيب ) تورم نتيجة لشعوره بالحظوة والمكانة لديكم كما يقول المثل : ( عرف الحبيب مكانه فتدلل ) .

 أرجوكم ثم أرجوكم مهما كانت الأسباب مانعة وكابحة ومحرجة لمن لم يتعود على هذا السلوك المحمود . فإن حرمان تلك المشاعر الإنسانية والعواطف الربانية من التحليق في سماء علاقاتكم العائلية أو الإجتماعية أو المهنية أصعب وأقسى .

 الآن فوراً قوموا بعمل جنازة مهيبة لكل مشاعر الحرج والخوف والتردد وتشييعها إلى مثواها الآخير وبوحوا في وضح النهار وأمام الملأ عن مشاعركم الصادقة لمن تحبون      ما دام أنكم تتمتعون بوجوده بين ظهرانيكم . فوردة واحدة منكم له في حياته أفضل وأثمن وأسمى من باقة ورد فاخرة في ( يوم خميس أو جمعه ) على قبره ، أو قصيدة رثاء عصماء تنظمونها تأبيناً لروحه الطاهرة في يوم وفاته بالرغم مظاهر الوفاء والود الذي تعكسه وتعبر عنه كل هذه المواقف النبيلة .  دمتم أوفياء كما أنتم ، وتقبلوا تحياتي .      

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 13
1
المستقل
[ ام الحمام - القطيف ]: 8 / 7 / 2009م - 1:34 م
لا يمكنني ايها الاستاذ العزيز الا ان اطأطأ راسي اجلالا و احتراما لمكاشفتك الجميله التي كشفت اللثام عن كيفية ممارسة العلاقات الانسانيه بين افراد الاسرة الواحده او بين افراد المجتمع .من المؤسف أن المخلوق الوحيد الذي يمتلك وسيله للتعبير و هي اللسان لا يستطيع ان يعبر عما يختلج بداخلة من مشاعر و عواطف و احاسيس امام من يحبهم . اللسان وسيله تحاكي بها قلوب و عقول الاخرين تستطيع من خلالها عندما تمتزج المشاعر الصادقه بكلمات الحب و الود ان تدغدغ عواطف الاخرين و تسيطر على قلوبهم و تستميلهم اليك . الحب مدرسة السلام و كم هو جميل ان تشعر بالحب تجاه زوجتك و اسرتك و مجتمعك .عودوا انفسكم على تكرار كلمات الحب فهي دواء لكل داء و لكم في الكاتب اسوة حسنه امتلك قلوب الكل نتيجة محبة للكل فلك مني كل محبة و معزه
2
Um Ali
[ Bahrain ]: 9 / 7 / 2009م - 1:09 ص
أشكرك أخي الكريم على موضوعك الممتاز.
3
ميرزا المسباح
[ مملكة البحرين - القدم ]: 9 / 7 / 2009م - 1:20 ص
اخي وعزيزي ابو علي أن لهذه الدورس الأسبوعية أثر كبير في إثراء وتعلم النفوس البشرية من خلال هذه الممارسات الاخلاقية التي تجعل من الأسرة مجتمعاً فاضل يعيش عواطفه الإنسانية الممزوجة بالروحانية الإلهية حيث سيكون نتاجها مجتمع فاضل يسمو بالأمة نحو التألق والنجاح.

لك حبي وتقديري داعيا لك بالتوفيق والنجاح.
4
ابراهيم بن علي الشيخ
[ القطيف - أم الحمام ]: 9 / 7 / 2009م - 4:26 ص
عزيزي / المستقل
دمت أيها المبادر رأسك مرفوع . وصوتك مسموع . وأمرك بالحب والألفة متبوع . وعدوك مقطوع . وما فاتك من أمنياتك مرجوع . والشر عنك وعن من تحب وعن كل المؤمنين مدفوع . وذنبك مشفوع . وحاسدك مصروع . وجنابك نافع ومنفوع . ولك مني الشكر والتقدير .
5
ابراهيم بن علي الشيخ
[ القطيف - أم الحمام ]: 9 / 7 / 2009م - 8:52 ص
الأخت الفاضلة : أمى علي
( مملكة البحرين )
أثمن لك ثنائك على الموضوع وشكرك لأخيك ، سائلاً الله لكم التوفيق والسداد .
6
ابراهيم بن علي الشيخ
[ القطيف - أم الحمام ]: 9 / 7 / 2009م - 8:58 ص
الأخ الخلوق الأستاذ : ميرزا المسباح
( مملكة البحرين - القدم )
لك يا عزيزي كل التقدير على تعليقك الرائع ، والمجتمع لا يرتقي بالخطب الرنانة ، ولا بالمقالات الريانة . بل بك وبأمثالك من الخيرين الساعين لفعل الخير وإشاعة المحبة والسلام . تحياتي للجميع يا أبا طه الودوووووووووووود .
7
Bubble
[ Bahrain - Manama ]: 10 / 7 / 2009م - 10:48 ص
اسمح لي أن أأيد و أعارض وجهة نظرك في هذا المقال الحماسي...
من وجهة نظري:
كبت المشاعر لا ينطبق فقط على الخائف و الخجول و الحريص.
يفضل البعض عدم الانطلاق و التسرع في النطق بتلك المشاعر الفاخرة لإدراكهم بأن الوقت غير مناسب لذلك..
لذا،
يمكننا القول أن هنالك حكمة من تجميد المشاعر، و هي كي لا تفسد؟
8
ابراهيم بن علي الشيخ
[ القطيف - أم الحمام ]: 10 / 7 / 2009م - 12:40 م
المشارك العزيز : Bubble
أحترم كثيراً حقك في إالإختلاف في وجهة النظر ، كما أتفق معك في تجميد المشاعر ( مجازاً ) حتى يحين الوقت المناسب للبوح بها لمن يستحقها . المهم أن نتذكر أننا بحاجة لدرجة حرارة مناسبة لتمييع تلك المشاعر بعد إخراجها من الثلاجة قبل تقديمها لصاحبها . أليس كذلك ؟ شكرا للمشاركة القيمة وتقبل تحياتي
9
عاشق الملكي
[ ام الحمام - القطيف ]: 11 / 7 / 2009م - 2:27 م
شكراً على هذا المقام ياأستاذي
الغزيز ابراهيم علي الشيخ .............
10
ابراهيم بن علي الشيخ
[ أم الحمام - القطيف ]: 12 / 7 / 2009م - 5:36 ص
الأخ / عاشق الملكي
أشكرك لمداخلتك وثنائك على المقال زادك الله عشقاً في طاعته ورضوانه . وتقبل تحياتي
11
نور
[ ام الحمام ]: 12 / 7 / 2009م - 6:01 م
اشكرك استاذنا العزيز على المقال الجميل والرائع ..

اعجبنيـ المقال كثيراً وحان الوقت لكيـ نطلق سراح مشاعرنا الى متى ستظل مخزنه بدون جدوى ..
والى متى سيظل الخجل..
وكم هو جميل ان نطلق ذالك قبل فوت الآوان ولمن يستحقها فعلآ .

يعطيك الف عافيه على المقال الجميل
وها نحن نترقب المزيد منكـ
واصل ونحن معكـ
12
ابراهيم بن علي الشيخ
[ أم الحمام - القطيف ]: 13 / 7 / 2009م - 3:22 ص
إليك ايها النور .......
زادك الله نوراً على نور ، وأشكرك على مداخلتك اللطيفة وتأكيدك على أهمية البوح بالمشاعر الإيجابية وعدم كبتها . شكرا لك على تواصلك الذي هو محل تقديري ولك تحياتي .
13
جعفر قوأحمد
[ أم الحمام - القطيف ]: 26 / 7 / 2009م - 8:35 ص
سلمت اناملك يا أبو علي
اشهد انك وفقت في اختيار العنوان بشكل ملائم جدا... أحسنت صنعاً

أحببت ان اشارك بنقل صورة من مذكرتي عن المجتمع الغربي اللذي يفتقر للمشاعر والعواطف. بل الأحرى بي أن أقول ما هو متعارف عليه في مجتمعاتنا بالمشاعر والعواطف
الكل أصبح مشغولا بدنياه ووظيفته وماله وتجارته ومنصبه وما يملك و غير ذلك من مظاهر وقشور وقد تحللوا من أسمى المشاعر الإنسانية اللتي صوروها بالضعف والتغنج والأنوثه... اللتي تفسخ منها حتى النساء.
مبررين ذلك بمتطلبات الحياة وظروفها

عندما قرأت مقالك تخيل لي مظهر متكرر في المجالس الحسينية حيث لا ترى التفاعل العاطفي الجياش مع مصيبة أهل البيت عليهم السلام... بل تراهم بين متكلف وممثل خشية النقد

إنه وباء مستفحل
وكأني ارى أقراص للعواطف كأقراص الفيتامينات
إستشاري سلوك وتطوير موارد بشرية