الحراك الشيعي.. بين الانغلاق الفئوي والانفتاح الجماهيري

السيد حمزة الشاخور

بداية لابد أن نقر بأن تعدد الخيارات والمناهج وتنوع الوسائل وإبداع الأساليب واستيلاد الأدوات المشروعة في سياق خدمة أية أهداف سامية يُعد مصدر قوة لا نقطة ضعف، ودائماً يمكن الاهتداء إلى سبل رشيدة وصالحة لتكثيف الجهود الإنسانية المتنوعة في حقل الخدمة الاجتماعية والعمل السياسي العام، بما يفضي إلى تكامل حركة الإنسان في ساحة التدافع والتنافس لبناء الذات الجماعية وتوفير حقوقها وحاجاتها وضمان حمايتها وصون سياجها ضد الأخطار والتهديدات المختلفة، مما يسهم في تأمين استمرار الحياة الحضارية الكريمة لأية فئة من المجتمع الإنساني.

غير أن المتمعن في سياق الحراك الشيعي في البلاد في الآونة الأخيرة يلحظ تبلور خيارات ومناهج متباينة في الساحة المجتمعية، باتت تستقطب اهتمام وجهود وأنشطة عديد القوى والأفراد المتصدين للشأن العام، وقد خلق تعدد الخيارات والمناهج أمام الجمهور والناشطين، رؤية ضبابية حول ماينبغي فعله والقيام به أو ما يستلزم تركه والنأي عنه سواء على مستوى الفعل والممارسة أو على مستوى القول والتصريح، هذه الضبابية الفكرية وعدم وضوح المنطلقات والمتبنيات السياسية أفرزت فقراً معرفياً بالأهداف انعكس تلقائياً في تقلبات أو تذبذب المواقف من الأحداث والقضايا العامة، إذ برزت مؤخراً عدد من المواقف المتناقضة لجهات وشخصيات بعينها قبالة أحداث متشابهة ـ بل تكاد تكون متطابقة ـ كانت تستدعي وتفرض في حال ثبات الرؤية الفكرية والسياسية اتحاد الموقف واتساقه تجاه تلك الأحداث.

الطائفة الشيعية في السعودية تعيش راهناً مرحلة مخاض عسير يؤذن بتحولات عميقة في بنية المجتمع الشيعي بكل أطيافه وطبقاته وشرائحه، وتشترك عدة عوامل داخلية وخارجية على خلق هذا المخاض، وتشارك الطائفة غيرها من المجتمعات في مواجهة بعض التحديات الطافحة على الساحة العالمية خصوصاً فيما يتعلق بالنواحي المعرفية والأخلاقية والثقافية؛ فنحن لسنا بدعاً من البشر، وفي المقابل هناك عوامل أخرى نابعة من طبيعة مجتمعنا وخصائصه المحلية التي ينفرد بها، أضف إلى ذلك التحديات الناتجة عن المتغيرات داخل البلاد على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. هذه العوامل مجتمعة فاعلة ومؤثرة بل هي المسؤولة عن تشكيل نفسية الفرد/ الجماعة وتشييد بنية روابطه وعلاقاته وتنميط طرائق تفكيره فضلاً عن رسم اتجاهات سلوكه وأفعاله، فضلاً عن تحديد رؤيته لذاته وللكون وللمجتمع وللسلطة.

أمام هذا الواقع كان يفترض أن يوصلنا التفكير والتخطيط الواعي لاستثمار كافة الخيارات والمناهج والمشارب ـ طالما هي لم تجاوز خطوط الدائرة المشروعة ـ التي أبدعها أو تبناها الإنسان الشيعي؛ في أي دائرة كان؛ سبيلاً لنشاطه وجهده العام في معمعة منازلة الأخطار ومدافعة التحديات، وأن نتجه إلى آليات الترشيد والتنقية والتوجيه بدلاً من الفرز الحاد والطرد العنيف والرفض لكل أشكال المغايرة في الأنشطة أو المواقف، فالتعامل مع حالات التنوع والتعدد وفق آليات الاستثمار الإيجابي والنزيه لصالح القضايا الجوهرية للمجتمع يضمن بناء التكاملية في الساحة ويمنع من التصادم والشقاق والمواجهة داخل الجماعة والمجتمع.

غير أن ما أشرنا له من تذبذب المواقف وتناقضها، وتغير الخطاب واختلافه، واستعارة قواميس لغوية ومصطلحات فكرية لا تتسق مع بعضها في صياغة التعريف بالشخص أو بالتوجه ولا يمكن الركون إليها كعنوان دال للتعريف بالمنهج، كل ذلك يمنع ولادة الثقة والطمأنينة اللازمة لبناء المعرفة الأولية بالتوجهات وبالأشخاص بغية التقارب معهم أو توليد صيغة وآلية للتكامل مع أنشطتهم ومنتجاتهم الفكرية أو السياسية وحتى الاجتماعية أيضاً!!. فضلاً عن ما يثيره التذبذب والتقلب من حالة الشك العميق المتبادلة تجاه استهدافات الأشخاص والفئات من حراكها داخل الحقل الاجتماعي العام.

ولا يجب أن نغفل أن كل هذه الحقائق تؤثر بدورها في إعادة تشكيل المناخ والرأي العام وتحضيره للقبول بتوجهات محددة ورفض أخرى مغايرة، وهو ما يكشف عن حدة الصراع والتنافس بين مختلف الأطراف للسيطرة على مصادر التوجيه والإعلام الأهلية بغية التمكن من تهيئة الجمهور للقبول بأطروحات هذا الطرف أو ذاك.

قد نتغاضى عن التنوع والاختلاف ونقبل به وكما قال البعض أن الساحة مفتوحة وتستوعب مختلف الخيارات، غير أننا لايمكن أن نغض النظر عن بعض التوجهات والخيارات حين يثبت ضررها على الصالح العام أو تربحها الخاص على حساب قضايا المجتمع والجماهير، والحكم الفصل في ذلك يجب أن يكون خيار الجمهور ورضاه وقناعته وتلمسه للفوائد المباشرة في عيشه اليومي أو في بناء مستقبله وتنمية قواعد مصيره ومآلاته وتطلعاته الكبرى.

إن الاذعان الحقيقي بضرورة محورية الأهداف والتطلعات الجوهرية للجماعة ينبغي أن يُترجم عملياً في توجيه كل الطاقات والأنشطة والفاعليات نحو ما يخدم تلك الأهداف، دون الاتكاء على التهويل في المنجزات لكل جماعة وتصغير وتحجيم عطاءات الجماعات والفئات الأخرى، ولا عبرة بالكم والعدد دون الارتباط الواضح لتلك المنجزات وتأثيرها في تطوير حياة الجمهور وتأمين كرامته واحتياجاته المعنوية والمادية على حدٍ سواء..

وقد آن لنا كطائفة شيعية ونحن نواجه الضغوط والتهديدات، التي تفضح بجلاء فداحة التآمر والتخطيط المسبق الذي تنفذه أطراف رسمية نافذة، وإصرارها المستمر على تهميش الطائفة وإضعافها وتفتيت روابط وحدتها الداخلية وسلبها مصادر قوتها الذاتية؛ أن نشدّ أحزمة الشجاعة في الترفع على مسببات التشتت والاحتراب الداخلي الذي يبعثر طاقات الجماعة ويضعف قوة نشاط الجمهور وحراكه العام.

نحن بحاجة إلى التفكير وفق آليات تبتعد عن ضيق الأنا الخانقة وتتجاوز حدود الفئة الصغيرة بما يضمن انفتاح أفق تطلعنا الجماعي على رحابة وسمو الأهداف المصيرية وعلى ضرورة التصدي إلى المخاطر الكبرى، فما عاد من المقبول أن نتقاتل ـ حتى وإن لم نستخدم الأسلحة والرصاص ـ على حصصنا ومواقعنا الفئوية وتبريز واجهاتنا وشخصيات تياراتنا المختلفة، في وقت لا يزال شبابنا وأبناؤنا وأباؤنا يقبعون خلف قضبان السجون ظلماً وجوراً، وبينهم ثلة جاوزت عامها الثالث عشر، فهذا من العيب والتقصير الذي يجب أن نطأطأ له رؤوسنا خجلاً وحياءً!!.

إن من العار حقاً أنه وفي ظل معمعة وزحام معاركنا البينية البغيضة فاتنا أن نلتفت إلى واجباتنا ومسؤولياتنا الشرعية والإنسانية تجاه دماء بريئة سُفكت ظلماً إما تحت هراوات الهيئة الطائفية كما هي قضية الشهيد الحاج أحمد الملبلب في الأحساء، أو تحت سياط التعذيب في أقبية السجون الأمنية كما هي قضية الشهيد ميثم البحر والشهيد محمد الحايك، إذ انشغلنا بمهاترات ومبادرات هامشية جوفاء عن العمل على المطالبة بمحاكمة قاتليهم والاقتصاص منهم أو على أقل التقادير فإننا لم نعمل على تخليد ذكراهم محلياً وإشهار مظلوميتهم للعالم، ولو بهدف الضغط على قاتليهم لكي لا يجرأوا على تكرار جرأئمهم وذلك لتأمين حياتنا وضمان حماية أنفسنا!!.

إننا كجمهور شيعي لا ينبغي لنا بعد اليوم القبول بزعامات أو تيارات تسوق علينا مشاريع وهمية أو غير ذات جدوى أو لا تلامس جوهر قضايانا المصيرية، إننا نتعطش إلى أي أحد يلملم شتاتنا ويوحد طاقاتنا نحو أهداف جوهرية كبرى، تدفع عنا مخاطر وتهديدات المتربصين بنا، لنشق معاً طريق الكرامة ونبني يداً بيد الحياة العزيزة الحرة.. ولايكفي أن يتشدق هذا الطرف أو ذاك بشعارات رنانة حتى يسرقنا معه في حلبة الردح والطحن الأجوف، بل يجب ومن اليوم أن نطالب المتصدين ببرامج عمل واضحة ومجدولة، فأمامنا الكثير من القضايا الشاغرة التي يمكن تبني العمل من أجلها.

نأمل أن يظهر علينا فريق شيعي يأخذ على عاتقه العمل الحقيقي والممنهج للإفراج عن السجناء، كل السجناء السياسيين دون استثناء، وفي مقدمتهم المعتقلين التسعة المتهمين في حادثة انفجار الخبر والتي أظهر التقرير الأخير الذي نشرته وكالة (IBS) براءتهم دون أن ننسى أنهم طوال ثلاثة عشر عاماً من السجن لم يدانوا بجريمة ولم يخضعوا لمحاكمة قضائية عادلة.. نأمل أن يبادر فريق آخر يتبنى العمل على إدراج الفقه والعقيدة الشيعية في مناهج الدراسة في المناطق ذات الأغلبية الشيعية كما هي محافظتي القطيف والأحساء وما أشبه، نأمل أن تعلن جماعة عن تصديها لانتزاع حق الحصول على تراخيص البناء للمساجد والجوامع في أي موطن يحتضن السكان الشيعة مهما كان عددهم، أسوة بما يفعل أتباع السلفية الوهابية في طول البلاد وعرضها.. إن مثل هذه القضايا الجوهرية الكثيرة هي محك الامتحان وميدان التفاضل بين مختلف التوجهات والزعامات، وإلا فلا خير في الجميع منا!!.

نعم.. لا أحد يضمن النجاح في تحقيق ما يسعى ويناضل لأجله، ولكن لا يجب الادعاء بما لم نفعل، خصوصاً وأن ديدن أغلبنا بات الدعاية والترويج لنفسه وجماعته عبر تضخيم وتلميع منجزاته أياً كان شأنها ومستواها. إن القضايا الكبرى والمصيرية لا يمكن العمل من أجلها بمعزل عن توظيف طاقات الجمهور ومشاركاته لأنه صاحب الثقل والتأثير الأكبر في تحقيقها، وبالتالي فإن كل برنامج عمل مما أشرنا له أعلاه يجب على من يتصدى له الإعلان عنه والدعوة إليه وإشراك الجماهير معه منذ الخطوة الأولى، فإطلاق سراح السجناء مثلاً لا يتم دون حركة يومية في الشارع وفي البيوت وفي الجوامع وفي الحسينيات وفي المدارس ينفذها أسر السجناء وأصدقاؤهم وجيرانهم وكل فرد في مجتمعهم كل بوسيلته المتاحة والممكنة!.

إننا اليوم بين خيارين إما أن نقتل قضايانا ونُقبر مطالبنا وتطلعاتنا العادلة والمشروعة في زوايا الفئويات الضيقة، أو أن نتجاوز أسوار فئوياتنا بالانفتاح الحقيقي والصادق على الجمهور والتلاحم معه في تنفيذ برامج عمل مخططة تتكفل بتغيير واقع الاضطهاد والإجحاف الذي يعيشه الشيعة في هذه البلاد.