ليلة رحيل " فايزة "

 

 

" المُؤمن مُبتلى " والإبتلاء هنا لا يعني التعاسة والكدر ، وإن كان ينطوي في مضمونه على تلك الدلالات المشاعرية ، إنما يشير إلى التمحيص والإختبار ، وكذا قياس مستوى تحمُّل العبد المؤمن للمكروه ، وشكر الباري عزّ وجل الذي لا يُشكر على مكروهٍ سواه .

هذه العائلة الصابرة وأعني " عائلة الحاج أحمد بن سلمان آل حرز " قد مُحِّصت خير تمحيص خلال الأربع سنوات الماضية ، من خلال رحيل الأخت الشابة : صديقة بنت معتوق آل حرز " أم أحمد " حرم الأخ العزيز " سلمان أحمد آل حرز " في غمضة عين ، ثم رحيل : " الحاجة أم سلمان " حرم الحاج : أحمد بن سلمان آل حرز ، وتلاها مباشرة رحيل إبنتها الشابة الصابرة : نعيمة بنت أحمد سلمان آل حرز " أم حسين " حرم الأخ الحنون : أمير بن محمد صالح آل براك ، بعد صراع طويل ومرير مع المرض ، وآخيراً رحيل شقيقتها الحاجة المؤمنة : فايزة بنت أحمد سلمان آل حرز " أم أحمد " حرم الأخ الفاضل الأستاذ " بدر الشبيب " في لحظة " دراماتيكية " تزيد من عمق الإبتلاء ، وتُصعِّد من قوة وشدّة التمحيص " اللّهُمّ لا اعتراض .. اللهمَّ لا اعتراض " . 

كنت هناك أمام غرفة العناية المُركّزة أتعلّم من ذلك الجأش الرابط للزوج الوفي الصابر الذي كان قلبه يتفطّر ألماً في صمت هادر ، ويحاول إخفاء دموعه السيّالة التي تفضحها حشرجة صوته الهادئ المستسلم لأمر الله متمتماً بدعاءٍ عميق . كنتُ هناك أُحسُّ بخفقات قلب يئنُ من فراق " زوجته ، وإبنته ، وزوجة إبنه " ويخشى من نكئ جراح لم تلتئم بعد . كنتُ هناك أعايش الألم والأمل ، اللذان كانا يعصران قلوب الأبناء ، والأشقاء ، والأهل ، والأرحام ، والأصدقاء في لحظات الألم الدفين . يا لها من لحظاتٍ كانت قاسية رهيبة عصيبة إلاّ مع إيمان من عرف الطريق إلى الله . 

كان " الأخ العزيز أ. بدر " الزوج المؤمن ، الوفي ، الخيِّر ، الصابر، برفقتي في السيارة ونحن عائدون إلى المنزل بعد إنتهاء الوقت المحدد للزيارة في ليلة الوداع الآخير . كان يقول : " أليس الله بأرحم الراحمين " قلتُ : بلى ، وسيطر الصمت للحظة ، ثم تابع قائلاً : إذاً لا ضير عليها ما دامت في عُهدة " أرحم الراحمين " قلت : ونِعمَ بالله ، والأمر لمن له الأمر، صبّركم الله . وأدركت الرسالة في سكون .

إنني أسمعهُ يتمم قائلاً : إني أناديكِ فرحيلكِ أمسى أشواكاً تدمي قلبي فهل تسمعي ندائي ؟ ستبقى الذكرى ناقوس يدق على بابي يؤنس صمتي وأيامي و الجراح مرساي بالرغم من إيماني المُطلق بالقضاء والقدر . نعم أيتها المستلقية بأمان بين يدي الله ، إنها لحظاتٌ حرجة ينكمشُ فيها الزمن ويبدو فيها كشريط سينمائي يعود بنا إلى مرحلة الطفولة من حياتنا التي تركتيني فيها وحيداً أموج في بحرٍ لُجيٍّ بين أسئلة         " محمد مصطفى ، ونور " وأناديك دون جدوى في " ليلة فرح " سلمى " المُنتَظَرة "  هي تمتمات... دون كلمات ... تبدو متناثرة ، عابرة كسحابة صيفية لطيفة ، أو كحاجز أو سد منيع لا يمكن العبور دون أن يطول التأمل . تساؤلات.. لماذا ؟ وكيف ؟

إنني أراه " يا أم أحمد " يحاول إعادة تدوين اللمسات الأولى بينكما بل الأحرف الأولى .. تتطاير منه كل الكلمات ، يحاول أن يجمع شتات تلك الكلمات .. لا جدوى. يلتفتُ خلفهُ  فيجدُ سحابة رمادية ملتفة حولهُ  فتنحبس أنفاسه كما الكلمات وصوت هادئ يهمس في أذنيه أفتح النافذة !! يراقب من خلال النافذة شآبيب رحمة وهي تتناثر في الفضاء .. كما تتناثر تلك الكلمات .. فيكتشف أنها روحك الطاهرة ترفرف فوق رؤوس الثكالى بفقدك الحزين لتواسيهم وتخفف عليهم من آثار الفراق . وداعاً أيتها الحبيبة المُخلصة ، وداعاً ايتها الإنسانة الفاعلة المؤمنة ، وداعاً أيتها " الفائزة "

إستشاري سلوك وتطوير موارد بشرية