لا يجنى من الشوك العنب: الإصلاح في المملكة

 

 

أصبح تويتر جزء من العادات الصباحية لكثير من السعوديين، وأصبح كـ "Snap Shot" لأفكار مختلفة تتلى على العين في كل دقيقة، وأصبح أداة فعالة لنقل الأخبار والتعليق عليها، ويقول البعض أنه الهايدبارك الوحيد في السعودية الذي علا سقف الحرية به إلى حد غير قابل للرقابة أو التطويع سواء كانت هذه الرقابة حكومية أو تيارية. أصبح تويتر يربطك بنجران أو جدة وأنت على سريرك في القطيف أو في حائل، وفي أقل من 140 حرفا في معظم الأحيان تتسرب إليك فكرة أو حدث، وتنتقل من فكرة إلى أخرى بشكل مذهل. قبل أشهر قرأت تعليقا للصديق فؤاد الفرحان أن المستقبل لتويتر، ولم أستطع فهم الدافع وراء كتابة الفرحان لهذا التعليق إلا بعد دخولي لتويتر، ولا أبالغ إن قلت بأن تويتر هو مظاهرة إلكترونية لم تستطع إلى حد الآن أي قوة من إيقافها. ما يهمنا في تويتر هو حجم مساهمته في إدخال المجتمع السعودي لأتون الربيع العربي، وإطلاقه للعقل والوعي السعودي للنظر بأكثر من عينين وقلب لما يحدث حوله، وأصبح الهم السعودي على تويتر حاضر في شتى جوانبه.

تتفق معظم العرائض التي تم توجيهها للملك من عام م١٩٩١ إلى الآن على نقطة جوهرية، وإن اختلف التعبير عنها بحسب اختلاف الفئة التي كتبت ووقعت هذه العريضة أو تلك وهي العدل. ولتشريح مشكلة العدل يجب علينا النظر بعين مجردة كل التجرد للوضع الحالي وشعور الفرد السعودي تجاه وطنه وأرضه، ومستوى شعوره بالرضا أو الخوف، والفرق بينهما. وهل يعبر خروج مئات أو آلاف السيارات للشوارع في اليوم الوطني عن مدى حب الناس ورضاهم عن أوضاعهم كمواطنين؟

فلنعد للتاريخ قليلا ً لتوضيح بعض الأمور التي قد تكون غائبة عنا. فبعد دخول الملك عبد العزيز رحمه الله للرياض عام ١٣١٩هـ، لقبه أهالي نجد بسلطان نجد أو الإمام، وبعد سيطرته على حائل والقطيف والأحساء لقب بسلطان نجد وملحقاتها، وثم ملك نجد والحجاز، أي أن نجد بقيت هي الأساس في لقبه والأساس في الاسم الذي اختاره أو اختير للدولة «مملكة نجد والحجاز» وبقيت كل المناطق ملحقة بنجد ماعدا الحجاز بثقلها الديني الذي يجعلها عصية على التجاهل. وفي عام ١٣٥١هـ أعلن عن قيام المملكة بكيانها الحالي تحت اسم المملكة العربية السعودية.

في المراحل السابقة لإعلان اسم المملكة كانت القوة السياسية والدينية محصورة في نجد والأسر النجدية، ولم يختلف الحال بعد إعلان توحيد المملكة أبدا، بل إنه زاد وتفاقم وتصاعد إلى يومنا هذا، فلا توجد وزارة واحدة تخرج عن الإطار النجدي إلا ثلاث وهي الحج والإعلام والاتصالات وهو تقليد حكومي في المملكة. أما وكلاء الوزارات والقضاة والمحافظين فقد حكروا على نجد فقط في معظم الأحيان، هذا بالنسبة إلى الإطار العام للحكومة في المملكة. وقد يعترض علينا البعض بأن المناصب للأجدر، وليست كوتات توزع على مناطق المملكة!! ونقول أن هذا جميل، ولكن هل من المعقول أنه لم يكن هناك شخص جدير لأن يكون وزيرا أو نائب وزير لا من حائل أو صبيا أو القطيف على مدى 60 سنة؟

أدت هذه المركزية والاحتكار للمناصب في منطقة جغرافية وهي نجد إلى تغليب الشعور بتمييز المواطنين بحسب المنطقة الجغرافية، وصحيح أنه في كل بلد قد تنشأ حالة من النفور التقليدي بين بعض المناطق الجغرافية اجتماعيا، ولكنها لا تترجم على تكوين الدولة السياسي أبدا. إلا أننا في المملكة نشهد استئثاراً واضحا للمناصب والسلطة وبالنتيجة للثروة من الفئة النجدية. ونحن هنا لا نطالب أبدا بحرمان نجد أو غيرها مما تتمتع به من امتيازات، ولكننا نطالب بإعطاء الجميع ما يعطى لنجد، أو حرمان الجميع. إن حالة التمييز المناطقي الحالي لا نستطيع فهمها إلا أنها سياسة رسمية تتبع تجاه بقية المناطق، فمنذ تأسيس الدولة لم نجد وزيرا حائليا أو أحسائيا، ولم نسمع عن وزير من القطيف أو من عسير مثلا، بل هناك بعض المناطق التي حرم أهلها من جميع مناصب الدولة في المستوى الإداري حتى على مستوى مديرة مدرسة، فمنذ تأسيس الدولة لم تعين مديرة مدرسة أو مديرا لأي دائرة حكومية في المملكة من أقصاها إلى أقصاها من القطيف.

إذا، الشعور بالعدل والمساواة بين المواطنين شعور مفقود، أو في أفضل الأحيان شعور ضعيف جدا، ليس له ما يدعمه من أدلة تصل إلى درجة إقناع المواطن بالعدل. فكيف يشعر المواطن بأنه جزء من هذا الكيان السياسي وهو مغيب ليس فقط عن مؤسسات اتخاذ القرار في الدولة، بل من كل شيء يقترب منها، إلا إذا كان من فئة جغرافية معينة. هذه النتيجة تعني أمرين لا ثالث لهما، فإما أن تكون الدولة قد فشلت في تأهيل مواطنيها للمشاركة في إدارة مؤسسات الدولة المهمة أو غير المهمة، أو أن شعور المواطن الغير نجدي بالتهميش والاستبعاد هو شعور صحيح ناتج عن سياسة رسمية أو شبه رسمية.

قد يصيب البعض عندما يقول أن الإصلاح ليس عملية تصحيحية كالثورة، أي أن فكرة الإصلاح لا تعتمد على روح حماسية راديكالية تدفع للتغيير، بل هو عملية تراكمية لتصحيح ما فسد من أمور الدولة الداخلية والخارجية في مدى زمني معقول. وليس من المبالغة القول أيضاً أن فكرة الثورة أساسا تعتمد على زخم تراكمي متصاعد يعتمد على وعي الطبقة الوسطى من الناس وليس على النخب، إلا أن الثورة لا تعني الإصلاح أبدا. في النموذج التركي الماثل أمامنا يتجلى الإصلاح في صورة متقدمة ومحفزة وتبعث على التفاؤل والأمل، مع أن مسيرة الإصلاح في تركيا لم تكن حادة المنعطف، بل أتت متراكمة ولكنها بزخم متسارع. وربما يدعي البعض أن النجاح التركي في الإصلاح السياسي والاقتصادي أتى نتيجة إرادة الحزب الحاكم القوية للإصلاح، ولكننا نقول بأن عامل الإرادة هو عامل قوي ومؤثر على مسيرة عملية الإصلاح، ولكنه لا يكوِّن الأرضية التي يرتكز عليها الإصلاح، فربما وجدت بعض العوامل أو عناصر التجربة التركية في المملكة، ولكن ما الذي تفتقده المملكة لتفعيل رغبة الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي؟ وأي نوع من أنواع الإصلاح يجب البدء به قبل غيره، السياسي أم الاجتماعي أم الاقتصادي؟

إذا قلنا أن المملكة تستفيق وتنام على خطوات إصلاحية، فإننا لا نبالغ أبدا، إلا أن كل خطوة من خطوات الإصلاح هذه تُتبع بخطوات للوراء تُفقد أي إصلاح لجوهره وفاعليته الحقيقية على حياة الفرد السعودي. المراقب الفطن للشأن السعودي الداخلي يلاحظ أن المسئول في المملكة يفتقد لبوصلة واضحة لتحديد الاتجاه الصحيح للإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي، والذي قد يكون به جانب خلافي بين أفراد الشعب، ولكن معظم النخب الحقيقية السعودية باختلاف ألوانها واعون جيدا إلى أن هناك مساحة كبيرة يشتركون بها بالنسبة لنظرتهم لوطنهم. ولو سألت أي مواطن سعودي عادي عن حقوقه السياسية أو الإجتماعية أو الاقتصادية، فلن تجد إجابة واضحة قاطعة، وهذا لسبب بسيط وهو غياب الفهم الرسمي الحكومي لمسألة الحق وحقوق المواطن. يتجلى هذا الفهم في الكثير من جوانب الحياة السعودية، فالمكرمات الملكية أو الشرهات أو الأعطيات أو المنح، كلها تنتهي لمفهوم واحد وهو تفضل الحكومة على المواطن بما تعطيه.

أما إذا نظرنا إلى الإصلاح واقعاً، فإننا نصطدم بواقع مر، فبالرغم من بعض القرارات التي أصدرت، وحجم احتفاء الإعلام الرسمي بها، إلا أننا لا نجد لها أثرا واضحا لا على الساحة السياسية ولا على الساحة الاقتصادية، بل إننا أصبحنا نعود للوراء، فبينما كانت الانتخابات البلدية في السابق لجميع أعضاء المجلس البلدي، تعود لتصبح لنصف الأعضاء ودون أي صلاحية ودون تنظيم إداري واضح، ولا يزال مجلس الشورى مجلس استشاري لا يتمتع بأي سلطة تشريعية إلا في حالة رغبة الملك بإحالة أي قانون لدراسته من قبل المجلس. وبالرغم من قرارات السعودة والتسهيلات الحكومية الكبيرة للقطاع الخاص وشبه الخاص، نجد أن معدلات البطالة في ارتفاع مستمر، أما مشكلة الفقر والسكن في هذا البلد الغني والمترامي الأطراف فهي مشكلة غير قابلة للتحليل المنطقي أبدا. يسمع المواطن بين الحين والآخر عن مشاريع بمليارات الدولارات، سواء كانت هذه المشاريع حكومية أو مشاريع يقوم بها القطاع الخاص، إلا أن الأمر الغريب أن المواطن لا يشعر بانعكاس هذه المشاريع على حياته بشكل إيجابي، فلا البطالة انخفضت، ولا مشكلة الفقر تم حلها.

إن الإصلاح الحقيقي يتطلب أرضية يقف عليها، وهذه الأرضية لن تتكون في ظل غياب مؤسسات المجتمع المدني المستقلة تماما عن الدولة، وهي - إن وجدت - فإنها لا تتمتع بأي صفة رسمية في اتخاذ القرار أو محاسبة المسئول. إن الإصلاح الحقيقي والفعال يرتبط ارتباطا مباشرا باستقلال القضاء كخطوة أولى للشفافية والمحاسبة، والإصلاح الحقيقي أيضا يتطلب وجود جهة مستقلة للتشريع وسن القوانين التي تحفظ حقوق الدولة والمواطن على حد سواء. الإصلاح الحقيقي أيضا يستلزم وجود صحافة حرة، لا تعين بأمر الوزير وتقال بأمر الوزير.

إن التهميش الحاصل لفئات كبيرة من المواطنين لن يولد انتماء أو هوية تجمع الكل تحت مظلتها، بل على العكس، سيزيد حجم الحنق والغضب الشعبي تجاه فئة تستأثر بكل شيء في كل شيء. هنا يجب علينا أن نعي الفرق بين الخوف والقناعة، فقد يلتزم الفرد بقانون خوفا من العقاب فقط، لأنه يشعر أن هذا القانون وضع لفئة معينة من الناس وهو لا يستطيع مقاومتها، وقد يلتزم الفرد بالقانون لأنه قانون وضع بمشاركة الجميع ويطبق على الجميع.