(نظرة في السِّجال المرجعي)

مرجعي أحسن من مرجعك

 

ما أحد أحسن من أحد:

يُتداول في الكتب الأصولية مصطلحا (المصوِّبة) و (المخطِّئة)، وهما معنيان يختزنان إرثاً فقهياً وعقائدياً وتاريخياً ضخما، ولتقريب معناهما نقول باختصار:

لاشك أن الله سبحانه وتعالى شرّع أحكاماً تنظم جميع نواحي الحياة، وتُستقى هذه الأحكام من القرآن الكريم والسنة المطهرة، وحين يقوم العالم المجتهد باستنباط الحكم الشرعي من هذه المصادر فإن حكمه الصادر يكون مندرجاً تحت حالة من الحالتين التاليتين:

الحالة الأولى: أن يعتقد بأن هذا الحكم صائب؛ لكونه صادراً عن اجتهاد منه واستنباط بالضوابط المعروفة، وأن مجرد حركته العقلية الاجتهادية تلك تعطي شرعية ومبرراً لصحة هذا الحكم، فمهما اختلف المجتهدون في أحكامهم فهم صائبون وإن تناقضوا: بأن قال عالم أن هذا الأمر حلال، والآخر يحرمه.

وأتباع هذه النظرية يُسمون بالمصوّبة، أي يصوّبون جميع ما يصدر من المجتهدين، وأنهم مأجورون ويُحملون على الصحة، وأتباع هذه النظرية هم المذاهب الإسلامية السنية.

حتى أن ابن القيم الجوزية – تلميذ ابن تيمية- ألّف كتاباً أسماه (إعلام الموقّعين عن رب العالمين) أي أن العلماء يعتبرون موقّعين عن الله في إمضاء الأحكام الشرعية، مما يعكس نفوذ هذه النظرية لدى المذاهب الأخرى كما ذكرنا.

الحالة الثانية: أن يعتقدَ العالم بأن الحكم الذي استخرجه من مصادره الشرعية يحتمل الخطأ كما يحتمل الصواب، منطلقاً من مبدأ «إن لله في كل واقعة حكم» فلا يمكن أن يكون لله في واقعة معينة حكمان، فحلق اللحية مثلاً له في علم الله حكمٌ أوليٌّ واحد، إما حلال وإما حرام، وحين يستنبط العالم الحكم الشرعي في هذه المسألة فإنه لا يجزم بأنه صائب 100% وبأن هذا هو حكم الله الواقعي. بمعنى أن واحداً من المجتهدين لديه الحكم الواقعي والبقية مخطئون، وأتباع هذه النظرية هم العلماء والمراجع من أتباع مذهب أهل البيت ، ويُسمون بالمخطِّئة.[1]

وقد يكون كلام الإمام الشافعي : «قولنا صواب يحتمل الخطأ، وقول غيرنا خطأ يحتمل الصواب»، هو خير استشهاد على هذه النظرية.

وبناءً على هذا المبدأ تكون أغلب الأحكام الشرعية التي يستنبطها مراجعنا الكرام ليست على نحو الجزم، وأن العلماء يتعبدون بما يرونه صحيحاً ويكلون الحكم الواقعي لله وللرسول وأهل بيته ، فهم العالمون بحقائق الأحكام، ولهذا تراهم غالباً يذيّلونَ أجوبة استفتاءاتهم بالعبارة الشهيرة (والله العالم).

فإذا كان المرجع نفسه يرى بأن حكمه غير مؤكد الصحة 100% فبالتأكيد سيعتبر بأن حكم غيره من المراجع غير خاطئ 100%؛ كونهما ينطلقان من نفس المبدأ الاجتهادي.

 

التعصب على الطريقة الرياضية والجاهلية:

والسؤال هنا: لماذا يقوم بعض مقلدي المراجع بالتهجم على المراجع الآخرين بسبب اختلاف الرأي، إذا كان مرجعهم نفسه لا يجزم بصحة رأيه؟

لماذا نرى مقلدي مرجعين كبيرين يتراشقون التهم والمهاترات والتسقيط والتشهير، بينما نرى المرجعين اللذين يرجعون إليهما يلتقيان ويتحدثان ويتضاحكان بثغرين باسمين دون أي حساسية؟ هل نكون ملكيين أكثر من الملك – كما يُقال-؟

أحياناً يذكّرني تعصب بعض المقلدين لمراجعهم بالتعصب الرياضي، فهو (مع الخيل يا شقرا)، يهاجم الطرف الآخر في حالةٍ من السُكْر الفكري، يتفوه بكلمات تكاد الجبال أن تزول منها من حيث لا يشعر، ليصطدم بعدها بسنوات مديدة بأن المرجع كان بريئاً مما اتهمه به مناوئوه براءة الذئب من دم ابن يعقوب.

والطامة الكبرى هي حين يدخل هذا السجال المرجعي بعض طلبة العلوم الدينية، فيُنظّرون لهؤلاء كيفية الهجوم على ذلك التيار المرجعي، ويبرزون للناس سقطات ذلك المرجع وهفواته، ويشحنون الناس بالبغضاء والبغي بدل المحبة والإخاء، وكأن هذا هو أمر الله سبحانه وتعالى: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا»[2].

ثم تدخل فيها العصبية الجاهلية!! قد تسأل: كيف؟

روى الشيخ الكليني في الكافي عن الإمام علي بن الحسين السجاد أنه سئل عن العصبية، فقال: «العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجلُ شرار قومه خيراً من خيار قومٍ آخرين».[3]

نلاحظ في بعض الكتابات لتيار ما، أو خطبة لأحدهم، أنه يأتي على ذكر موضوعٍ ما، فيقيم الدنيا ولا يقعدها لإثباتها، ويأتي برأي لشخص مغمورٍ محسوب على مرجعيته – وقد يكون هذا الرأي ضعيفاً لكنه لم يجد غيره من خطه- بينما قد ترى أن هناك من الكتاب والعلماء والمفكرين من التيارات الأخرى يمتلكون الرأي الأقوى في هذا المجال، إلا أنه يراها انكساراً لتياره المرجعي وانتصاراً للتيار الآخر بأن يأتي برأي شخص من التيار المضاد، أو أن يذكر اسمه حتى، ثم يختم الحديث بقوله: «على كلٍ، الحكمة ضالة المؤمن!».

 

حطب الفتنة:

ولعل من أهم الأسباب والعناصر المُسببة لاشتعال أتون السجال المذهبي في مجتمعنا:

1.      الافتقار للغة الحوار والتسامح، وعدم الاستماع لوجهات النظر الأخرى ومعرفة ما لديها من أفكار وأطروحات فقهية وعلمية ودينية واجتماعية.

2.   آحادية الفكر والرؤية، والتي تجعل من المجتمع متخوّفاً من أي فكر جديد أو مغاير، فيرى أن وجهة نظره فقط هي الصحيحة وأن غيره على خطأ، وقد مرت علينا الكثير من القضايا التي كنا نزعم أنها هي الصحيحة لسنوات ثم ثبت لنا العكس، ولكن ترى أن البعض لا زال يصرّ على صحة رأيه رغم اهترائه وعدم صلاحيته للاستهلاك الآدمي والفكري.

3.   خطيئة التعميم – كما يسميها الدكتور عاطف عبدالحميد- هي إحدى أُسس البلايا، فحينما ينحرف شخص من خط مرجعي ما أو تصدر منه فلتة أو سفاهة، فإن الكثير وللأسف يظلم خطاً مرجعياً كاملاً بكل رموزه وأتباعه بسبب تلك الزلة التي يتبرأ منها المرجع وأتباعه، وقد يتمسك بها الأتباع – أحيانا- إذا رأوا تهريجاً وتشهيراً من طرف على الطرف الآخر كردة فعل لهذا التشنيع، والمشكلة أننا نعيب على بعض المذاهب السلفية المتشددة أنها تعمم على الشيعة بعض الآراء الشاذة في الكتب أو المحاضرات التي يطلقها بعض المحسوبين على الشيعة والشيعة منها براء، بينما في الواقع العملي نرى بعض (سلفية الشيعة) يمارسون نفس الخطيئة تلك على الشيعة.

4.   البحث في عيوب وسقطات المرجع الفلاني أو وكلائه أو مقلديه لتعميمها عليهم أجمعين هي من الصفات المَرَضية النفسية التي ينبغي أن يُبحث لها عن علاج نفسي جماعي، وكأننا لم نسمع بالحديث الشريف: «لا تتبعوا عورات المؤمنين، فإنه من تتبع عورات المؤمنين تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في جوف بيته».[4] والبعض للأسف يجعل ذلك شغله الشاغل بأن يفتش في كتب العلماء لاقتناص زلة هنا أو رأي شاذٍ هناك، قال رسول الله : «إنما الخوف على أمتي من بعدي ثلاث خصال: أن يتأولوا القرآن على غير تأويله، أو يتبعوا  زلة العالم[5]، أو يظهر فيهم المال حتى يطغوا ويبطروا»[6].

5.   نقص الثقافة الفقهية في مجال الاجتهاد والتقليد لدى الناس، مما يجعلهم يتحذّرون من الخوض في هذا المجال، فيكتفون بالمقولة المشهورة «قلدها عالم واطلع منها سالم».

6.   التجييش الذي يمارسه بعض الخطباء والطلبة ضد التيارات المغايرة، لأسباب قد تكون متعلقة بوجهة نظرٍ متطرفة، أو خوفاً على منصب أو وكالة قد يخسرهما، ولذا رأينا بعض الطلبة ممن كانوا يهاجمون شخصية غير مرضيٍّ عنها بداية الأمر؛ ركبوا الموجة مع الذين ناصروه فيما بعد بسبب طبيعة مجتمعهم الثقافية وبسبب تغيّر مصالحهم، فكان تأييدهم من قبيل «الجمهور عاوز كده»، وذلك خوفاً من أن يكونوا أثراً بعد عين. والعكس صحيح، فهناك من يتعاطف مع هذه الشخصية في داخله وداخل مجلسه، ولكنه يهاجمه على منبره لأنه يعلم بأن تعاطفه مع هذا المغضوب عليه سيكلفه وكالته الشرعية ومسجده ومنبره.

إلى غيرها من العوامل والمسببات التي تندرج تحت هذا العنوان، وقد نشير لها تفصيلاً في مكان آخر بإذن الله تعالى.

 

كي نخرج من هذه الأزمة:

السجال المرجعي لن ينتهي إلا بتظافر العديد من العوامل بمساعدة المفكرين والمثقفين وعلماء الدين الواعين، ومنها:

1.   توعية الناس بضرورة تقبل الرأي الآخر لباقي المراجع، وأن ذلك ليس مدعاةً للتشنج والانقسام، فالعلماء يستقون من معين واحد، ولكنهم يختلفون في فهم هذا النص أو ذاك. وتحذيرهم من مغبّة الوقوع في الفكر المتطرف الذي يرمي كل من يخالفه بالمروق من المذهب، أو البترية، أو الخروج من الدين – إن اقتضى الأمر-.

2.   الابتعاد عن محاسبة النوايا، فالله هو العليم بخفيات الأمور، وعدم إدراكنا لمغزى حكم أو رأي لمرجع ما لا يعطينا الحق في محاكمة نواياه وأنه يضمر السوء ويحمل أجندات خارجية أو داخلية أو إقليمية.

3.   التزاور والحوار بين مختلف التيارات المرجعية للوصول إلى لغة حوار مشتركة، ونبذ التطرف الفكري الديني تجاه أي طرف مهما كان، وألا نُقحم المسائل الخلافية الفقهية أو السياسية بالعلاقات الاجتماعية والتواصل الإيجابي، لأن ترجمة الألفة عملياً بالتواصل أبلغ من ألف خطبة يلقيها ألف خطيب في فضل التلاحم الاجتماعي والأخوة الإيمانية.

4.   أن نفهم التقليد بأنه طريق للوصول إلى الله سبحانه وتعالى بالأعمال الصالحة وفق ما يراها مرجع تقليد تنطبق عليه الشروط الفقهية، وأن مسألة تحديد الأعلم هي مسألة اختيارية للمكلف، فتكون الإشارة لمرجع ما بالأعلمية – أو بالكفاءة العلمية والاجتهاد بالنسبة لمن لا يرى وجوب تقليد الأعلم- هي من باب الإشارة والنصيحة والتوجيه، لا من باب الإلزام والتعيين، وكأن هذا المرجع  هو الإمام علي بن أبي طالب فلا يجوز الحياد عنه، بل بلغني أن بعض الوكلاء يقول لمن يسأله عن الأعلم بأن عليك أن تقلّد فلانا المرجع وإلا فإن مصيرك النار وبئس المصير!.

5.   عدم إقحام ما ليس من العقيدة في العقيدة، والمسائل المذهبية الهامشية في ثوابت المذهب، فحين يُفتي أحد المراجع أو يتكلم أحد الخطباء برأي معين تجاه الخيرة بالسُّبحة مثلاً بأنها غير صحيحة، أو لم يثبت استحبابها، تقوم الدنيا عليه ولا تقعد وكأنه أنكر وجود الإمام الحجة ، مع أن هذا الأمر لا يتعدى كونه مستحباً من المستحبات التي (قد) أو (لا) تثبت، والغريب في الأمر أن المعترض لا يحرك ساكناً حينما يسمع بأن الشيخ التبريزي (قده)[7] أو السيد السيستاني (دام ظله)[8] لا يريا استحباب هذه الخيرة إلا رجاءً، فلماذا يقيم الدنيا هناك، ويقعدها هنا؟ ما هكذا تورد يا سعد الإبل.

6.      عدم إقحام عوام الناس في مسائل فقهية خلافية بين المراجع لتأجيج غضبهم تجاه المراجع الآخرين، فما دامت المسألة لم تتعدَ البحث الفقهي فليترك للعلماء والمراجع والباحثين مؤونة الرد عليها، إذ ليس للناس البسطاء ناقة ولا جمل في مسألة أن المرجع الفلاني يرى صحة إثبات دخول الشهر والهلال فلكياً أو بالعين المسلّحة من عدمها، أو أن المرجع الآخر يرى جواز أكل ما ليس له فلس من عدمه ، فما للعوام البسطاء والدخول في دوامة الاستدلالات الفقهية بين المراجع، وما لهم إلا أن يرجعوا فيها لمن يقلدون، ولا شأن لهم بمن لا يقلدوه، ونحن نتذكر كيف أدخل المتوكل العوام في محنة خلق القرآن – والتي كان من المفترض أن تقتصر على العلماء والمتكلمين في مجالسهم- وما نتج عنها من مناحرات ومشاجرات وانشغال عمّا هو أهم بما لا دخل للناس فيه من الأصل، فاتقوا الله في الناس يا ناس.

7.   زيادة الحراك الاجتماعي والثقافي بين جميع الأطراف والتيارات، وجعل الهدف الأسمى لكل تيار هو خدمة هؤلاء الناس، وإنقاذهم من الانحراف الأخلاقي والعقائدي والاجتماعي، وذلك عن طريق توحيد الرؤية في أن الدين جاء ليخدم الناس ولينقذهم لا العكس، ولنضع خلافاتنا جانباً بدل أن يذهب ضحيتها من لاشأن لهم بكل هذه الأمور.

أنا أعلم أن هذا الأمر لا يمكن أن ينتهي بسهولة وبمجرد مقال أو مقالين، ولكن قطرات مطر المحبة والفكر الواعي المتواصلة قد تكسر صخرة الكره والجمود والانشقاق في مجتمعنا. 

 

مِسك:

« قد ترى بعضهم، وللأسف، حين يرون عالماً له شخصية وعلماً ومؤلفات، فإنهم يقومون بالتفتيش حوله ليجدوا ثغرة من هنا أو هناك.  يا أخي، خلق الله (عزّ وجل) أربعة عشر معصوماً في هذه الأمة فقط، لا تفتشوا عن معصومين، فمن مشاكلنا وللأسف أننا نريد من العالم أن يكون علي بن أبي طالب ، ولكن يبقى عليٌ هو علي ... العلماءُ بشر، وللبشر أخطاء وثغرات، أو لا أقل قد يكون لدى هذا العالم أو ذاك شيء قد يكون في رأيي أنا خطأ أو في رأيك أنت خطأ، ولكنه عند الله صحيح، أو قد يكون شيئا مجبورا عليه، عليك فقط أن تنظر إلى وضعه وظروفه. وأقول لهذا المنتقد: كن أنت مثل (قنبر) أو (ميثمَ التمار) ؛ حتى يكون لك العالِم عليَّ بن أبي طالب . »

آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي (دام ظله)[9]

الهوامش:

[1] راجع: الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف للسبحاني: ج2 ص594.
[2] سورة آل عمران: 103
[3] الكافي للكليني: ج2 ص308
[4] المحاسن للبرقي: ج1 ص104
[5] وفي لفظ آخر: «يبتغوا زلة العالم».
[6] الخصال للشيخ الصدوق، ص164، وبحار الأنوار للمجلسي، ج2، ص42، وميزان الحكمة للريشهري، ج3، ص2302.
[7] أجاب الميرزا جواد التبريزي (قده) على سؤال: ما هو الثابت استحبابه من أقسام الاستخارة؟ بقوله: « لم يثبت استحباب الاستخارة، ولكن بها رواية وهي مجربة»، صراط النجاة للسيد الخوئي، تعليق الميرزا جواد التبريزي، ج1 ص553 المسألة رقم 1534.
[8] في سؤال ورد لسماحة السيد السيستاني (دام ظله) نصه: هل الاستخارة المتبعة عندنا الآن محبذة شرعاً أو واردة؟ أجاب بقوله: «يؤتى بها رجاءً عند الحيرة، وعدم ترجح أحد الاحتمالات بعد التأمل والاستشارة»، الفقه للمغتربين للسيد السيستاني، مسألة رقم 598 ص344.
[9] من محاضرة لسماحته بعنوان: (علماء الدين قيادات حضارية).
شاعر وكاتب - الأحساء