تَعالَوا مَعاً نُحيي سُنّة الاعتكاف

بسم الله الرحمن الرحيم


والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم إلى قيام يوم الدين.

قال تعالى في كتابه الكريم ( ... وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) 125/البقرة .

أحد أهم عبادتين تعمر بها مساجد الله سنة الاعتكاف ، ولأجل هذا خصها الله تعالى بالعناية والاهتمام وأمر نبيه إبراهيم عليه السلام أن يهيئ بيته الحرام ويطهره للعاكفين  قبل المصلين ، كما أن الآية تتضمن إرشادا ودعوة للقائمين على مساجد الله (التي يصدق عليها عنوان الجامع) بأن يولوا عنايتهم لسنة الاعتكاف ويهيؤوا كافة المستلزمات المساعدة لإحياء هذه السنة النبوية فيها .

إن سنة الاعتكاف لم ينفك  نبينا الأعظم محمد صلى الله عليه وآله عن إقامتها حتى آخر حياته ، فقد كان يعتكف كل عام العشر الأواخر من شهر رمضان ففي الحديث عن إمامنا الصادق عليه السلام ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله ، إذا كان العشر الأواخر اعتكف في المسجد وضربت له قبة من شعر ، وشمر الميزر ، وطوى فراشه ) ، فحري بنا - نحن أمة هذا النبي الذي لم يترك الاعتكاف عاما قط - أن نحيي سنة الاعتكاف وأن لا نتوانى في إحيائها .

إن إحياء سنة الاعتكاف فيها نصرة لإمامنا صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه ، ويجعل من القائمين على إحيائها في زمرة انصار إمامنا صاحب الأمر ، الذي ستكون من مهامه إحياء تلك السنن المطموسة في أمة جده صلى الله عليه وآله ،بل هو مدخر لذلك كما في دعاء الندبة ( أين المدخر لتجديد الفرائض والسنن ) فهو المشيد لتلك السنن ففي دعاء العهد ( ومشيدا لما ورد من أعلام دينك وسنن نبيك ) ، فلنكن نعم العضد ونعم الناصر لإمامنا في إحياء هذه السنن لندخل في عداد أنصاره عجل الله تعالى فرجه .
الاعتكاف :

الاعتكاف هو اللبث في المسجد ، ويشترط فيه استدامة اللبث في المسجد بحيث لا يخرج إلا لضرورة عرفية أو شرعية ، وأن يكون صائما ، وأن لا يكون أقل من ثلاثة أيام ، ويجب فيه أن يمتنع عن النساء والطيب والجدال والبيع والشراء ، وأفضل أوقاته في العشر الأواخر من شهر رمضان .

وينبغي للمعتكف أن يشتغل أثناء اعتكافه بالعبادات والإكثار من الصلوات والتلاوة وقراءة الأدعية والاشتغال بالأذكار والتسبيحات ، إضافة إلى التفكر والتأمل ومحاسبة النفس والعزم على الإنابة والتوبة عما صدر منه فيما مضى واجترحه بحق ربه ونفسه وبحق غيره من الناس .

إن في الاعتكاف فرصة ثمينة لمن أثقلتهم الحياة وشواغلها ويتوقون لان يتخففوا من أثقالها في رحلة تحلق  بأرواحهم في نزهة مع عالم النقاء والسمو والصفاء   لتنتشله من أوحال المادة  والحياة الدنية ، وتأخذه إلى عالم يسوده لحظات من التأمل والذكر والمناجاة مع خالق الكون ، معطرة بتلاوة الذكر وتسبيحات الذاكرين في صفوف الركع السجود .

الإنسان كم هو بحاجة إلى لحظات تأمل يتوقف فيها ليراجع ماضيه وحاضره ليؤسس له مستقبلا اكثر إشراقا وينظر ما قدم لنفسه و أخر ، وما له وما عليه من حقوق وواجبات ، وكم هذا الإنسان بحاجة إلى لحظات خلوة يصفو فيها إلى ربه ، ليستمد منه قوة وعزيمة ويستعيد توازنه ويحلق فيها بروحه في عالم الذكر والتلاوة والعبادة والدعاء ، فما أجملها من لحظات تستلذ القلوب فيها بمناجاة ربها تخاطبه وتناجيه وتبث إليه شجونها وشكواها وخلجاتها ، وتستشعر فيها بطعم العبودية والقرب من  الله عز وجل .

ما أحوج شبابنا اليوم ومجتمعنا كافة لإحياء هذه السنة المنسية لنعالج بها خواء أرواحنا وانغماستنا في عالم اللذات والشهوات والماديات حتى قست قلوبنا وابتعدنا عن مثلنا وقيمنا ، وبدت تتفشى فينا ظواهر القتل والعنف والجريمة ، وتستشري فينا مظاهر الانحلال والفساد والميوعة .

إن سنة الاعتكاف التي تروي أرواحنا كفيلة بانتشالنا من هذا الواقع و علاج الجفاف الذي ألمّ بأرواحنا وقلوبنا وكل مضاعفاته على واقعنا وذلك إذا ما أحييناها واعظمنا شأنها وجعلنا لها علَماً في جوامعنا يتنافس إليها الشيخ قبل الشاب والكبير قبل الصغير والمرأة قبل الرجل ، ويشتغل في دعمها ومساندتها والتشجيع عليها العلماء والخطباء والوجهاء والآباء والأمهات ، ولا يتوانوا عن مساندتها ماديا ومعنويا ، حينها سيجني أبناؤنا ومجتمعنا آثار هذه السنة المباركة وسنتلمس تأثيرها على شبابنا ، ولقد ضرب لنا المرجع الديني آية الله العظمى السيد محمد رضا الكلبيكاني قدس سره أروع مثال عندما خصص من الحقوق الشرعية مبالغ طائلة لإحياء سنة الاعتكاف وذلك حين أعطى كل معتكف هدية مالية فضلا عن توفير كافة احتياجاته طوال مدة اعتكافه من مأكل ومشرب ، كل ذلك تشجيعا منه للمؤمنين لإقامة هذه السنة العبادية المنسية .

إن وقوف المجتمع بأجمعه لإحياء هذه السنة ومؤازرتها سبب لاستنزال الرحمات الإلهية على عموم المجتمع ، كما انه كفيل بأن يستجلب لنا نظرة رحيمة من إمامنا عجل الله تعالى فرجه فيشملنا بلطفه ورأفته وحمته .. فتعالوا معا نحيي سنة الاعتكاف.