السيّد محمد رضا الشيرازي والمزاوجة بين العلم والأخلاق

الشيخ علي آل موسى

يرتبط العلم في حياة البعض من الناس بصفات التكبر والغرور والعجب، ورفعة الصوت في الجدال، وحدة النقد، والارتباط الحسي بالعلم والركون إليه بعيداً عن الله سبحانه وتعالى، ومن ثمّ يضحي العلم حجر عثرة في طريق الأخلاق العامة والأخلاق الخاصة: الأخلاق العامة المرتبطة بعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان، والأخلاق الخاصة المرتبطة بعلاقة الإنسان بالله، وأمسينا نسمع من لسان الحديث الشريف أنّ "من تعلم العلم؛ ليماري به السفهاء، أو يباهي به العلماء، أو يصرفَ به وجوه الناس إليه ليعظموه، فليتبوأ مقعده من النار" ، كما أمسينا نسمع قلب علم العرفان يخفق بنبضه ذائع الصيت الذي يقول فيه: (العلم هو الحجاب الأكبر)، أو (العلم حجاب أكبر).

واعتاد الناس أن يروا أنّ العلاقة بين العلم والأدب في صورتها الغالبة لا تحكي علاقة التآخي والتآلف والتوحد، فهناك من يشحذ همته بأقصى طاقات الشجاعة والجرأة وحرية النقد والمواجهة، دون أن يسقي قلبه رشفة من نمير الأدب؛ حتى ليضحي العلم لديه مجرّد مصطلحات جوفاء وأبهةٍ خاوية.

ولا يقتصر الأمر على من تزيى بعمامة رسول الله ، بل.. انجر في كثير من روافده إلى بعض المتدينين حين يلمّون ببعض ظواهر العلم دون أن يغمسوا قلوبهم في حياض الأخلاق؛ ليغسلوا عنها الدنس.

تلك صورة رأيناها عند البعض من الناس، وفي الصورة المقابلة منها تماماً لوحة تبدي السيّد الفقيد محمد رضا الشيرازي (قدس)، وقد تزاوج في قلبه العلم والأخلاق، وتآخت في ذاته المعرفة والأدب، لينضح ذاك التزاوج والتآخي أبهى فنون الطهر على أخلاقه العامة والخاصة.

ونحن هنا نريد أن نقف وقفة إجمالية سريعة لملاحظة ملامح هذا التزاوج المقدس في تلك الذات الطاهرة:

 

1ـ التواضع الأخلاقي:

شاعت على ألسن بعض الشعوب أنّ (العالم كالكعبة يزور ولا يُزار)، و(إذا أردتَ السداد فاعتزل العباد)، (الاستيناس بالناس من علامات الإفلاس)، وتسمية الناس بـ (العامة)، ومن ثمّ غدت الصورة النمطية للعالِم المثال أنّه الشخص الذي لا يخرج من بيته، وأنّ زيارته لأحد هي شهادة ضمنية له بالاجتهاد والفضل.

بينما عُرف السيّد رضا الشيرازي بالشخص الذي يعظم الناس في عينيه، والشخص الوصول لأقاربه ولطلابه وللناس، يسأل عن الجميع، ويتفقد أحوالهم، ويتصل بهم، ويزورهم.

يحمل على يديه آنية الأكل والطعام ليقدمه لجيرانه حتى من غير الشيعة، إجلالاً للإنسانية، واحتراماً لحقّ الجيرة، كما يحكي بعضُ العمال المصريين في الكويت الذين رأوا في ذلك قدساً يحكي الحديث الخالد "كونوا دعاة لأنفسكم بغير ألسنتكم".

ويشرق بحبّه الدافئ للآخرين، وإكباره العميم المرخى للناس، حتى شهد الكثيرون وقوفه في لفح الهجير وحرارة الشمس ينتظر مرافقيه حتى يلتم الجمع قبل أن يلجوا لزيارة من جاؤوا له، احتراماً لهم، وإكباراً لوفادتهم إياه، كما اعتاد الكثيرون من طلابه وغيرهم على حنانه الدافق في مبادرته للاتصال التلفوني بهم، ومبادرته بزيارتهم أصحاء وعيادتهم مرضى، وألف الجميع ممن يزوره في بيته أو في موسم الزيارة في قم المقدسة اهتمامه بالجميع، وجلوسه معهم على مائدة واحدة، وتقديمه الطعام بيديه إليهم، وأكله من بقايا الطعام المتساقط من لقمهم وأيديهم، بل.. وكم أوقفه الأطفال ليكتب لهم إهداء خاصاً على كتاب، أو ليأخذوا معه صوراً تذكارية.

 

2ـ التواضع العلمي:

يميل البعض إلى تدبيج قائمة طويلة من الألقاب العلمية والأخلاقية قبل الوصول إلى النطق باسمه، ويعضّ بنواجذه على لزوم ذكر درجته العلمية عند الحديث عنه، أو قبل تقديمه للإلقاء وغيره، ويشعر بحالة من الغبن العلمي والأخلاقي لو ذُكر اسمه مع التقليل من تلك المقدمات، كما يشعر بالمهانة لو ذُكر اسمه دون أيّ من المقدمات!!

ذات يوم جاء أحد علماء إخوتنا السنة إلى الكويت ليلقي محاضرة في ندوة الإمام علي ، وعرّف نفسه للسيّد رضا بأنّه خريج معهد كذا، ومسؤول مسجد كذا، ويدير مركز كذا في أوروبا، ثمّ وجّه سؤاله إلى السيّد قائلاً: (ومن أنتم لأتعرّف عليكم)، فأجابه السيّد: (أنا رضا).

 وحين بثت له قناة الأنوار بعض المحاضرات معرّفة له بعبارة (الفقيه، وآية الله) اتصل ببعض القائمين عليها؛ ليطلب منهم رفع تلك الألقاب التبجيلية.

وقد دفعه الخوف من تسرّب العجب إلى القلب أن يجيب الفقيه الذي سأله: أيكما أكبر أنت أم أخوك السيّد مرتضى؟، دفعه ليجيبه: (أنا الأكبر سناً)، وحين يتدخل السيّد مرتضى ليقول: (بل هو الأكبر سناً وعلماً)، يظلّ الرضا مصراً على أن يعيد (إنّني الأكبر سناً).

 

3ـ أدب الحوار:

تتزاحم على ألسن بعض المدرسين، وتتعاضد في كثير من كتب الفقه والأصول.. عبارات مثل: (هذا كلام لا يقول به أصاغر الطلبة، فضلاً عن فقيه)، و(هذا من سهو قلمه الشريف)، و(رحم الله فلاناً وإن كان لا يرحم أحداً في طلاسمه).

ودأب البعض في حواراته العلمية على احتكار الحقيقة، وشرعية تفسير النصّ الديني، واستخراط جهود الآخرين واستنتاجاتهم.

بينما يألف من يقترب من السيّد رضا الشيرازي منذ نعومة أظفاره أدب الحوار وحنان لغة التوجيه والنصح، فيراه يبدي الحكم الفقهي مغموساً بحلة من الأدب العميم، ليقول لمن أراد أن يقضي حاجته في البحر – مثلا -: "هذا مكروه في المياه".

وإذا كان ذاك مشهده وهو طفل لدن العود.. غضّ الإهاب، فهي ذاتها الصورة التي يراها من يصغي لمحاضراته ودروسه يوم غدا فقيهاً تعرض الفضائيات نميره الزلال، فإذا هو لغة ملؤها الإكبار للآخرين، وحسن عرض استدلالاتهم وتوجيهها، والبعد عن مصطلحات التسفيه والضعة للآخرين، والتقديم الأخلاقي السامي للشخصيات التي ينقل عنها، ومناقشة آرائها وأدلتها بكلّ احترام، وبمعزل عن التعرّض للشخص والرمز.


 4ـ الارتباط بالله:

حينما ينحرف العالِم عن قبلته الفعلية – وهي الله - يغدو قاطعاً للطريق، لكنّه ليس قاطعاً لطريق بين بلد وبلد، بل.. قاطعاً لطريق الناس إلى الله، وقبل ذلك قاطعاً لطريقه هو إلى الله!!

لكنّ السيّد رضا الشيرازي لم يأخذه العجب، ولم يستول عليه الغرور العلمي، فظلّ على علاقته المتميّزة بالله، وبالقرآن والتدبر، وظلت محاضراته تشعّ بدفء الأخلاق حتى في تتبع قصص العلماء التي حرص قلبه وذاكرته على تصيّد الجانب الأخلاقي فيها وإبرازه.

لقد ألف فيه رقة القلب وشدة الورع حتى قال عنه أبوه المرجع الشيرازي: (إنّ ولدي محمد رضا لم يُخلق لهذه الدنيا).

وحين رآه أحدهم واقفاً في صحن مسجد السيّد الشيرازي في الكويت في ليلة القدر، وقال له: (اذكرني هذه الليلة في دعائك ومناجاتك مع الله تعالى)، لم يشهد إلا وقد انحنى رأس السيّد إلى الأسفل، وارخى لعينيه أن تهملا على خديه سيول الدمع الصبيب.

إنّها من طرف كراهية أن يعتقد الإنسان في نفسه أنّه أهل لتلك الوجاهة والمنزلة، ومن طرف آخر لذة سماع اسم المحبوب، وآثار تجليات إصغاء القلب لذلك العزف البهي.

نسأل الله أن يملأ قلوبنا حباً له، وإيماناً به، وتصديقاً بكتابه، وأن يكون العلم دليلنا إليه، وسبيلنا إلى خدمة عباده، إنّه ولي التوفيق، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين..

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
عبدالله
[ أم الحمام - القطيف ]: 5 / 6 / 2009م - 11:49 ص
رحم الله السيد واسكنه فسيح جناته
وجعل الله ما كتبتم في ميزان اعمالكم