إلى أين يتجه دور المثقف؟

 

هل ما زال للمثقف دور يؤديه؟ ما هو هذا الدور؟ هل يستمر المثقف في أداء هذا الدور؟ ما هي أشكال هذا الدور الآن ومستقبلا؟ ما هي عوائق هذا الدور؟ وهل هناك حاجه وضرورة اليوم للمثقف وأدواره في ظل ما يدعى بثورة الإنفوميديا (الإعلام والمعلوماتية)؟

هذه الأسئلة وغيرها يمكن إثارتها ليس بقصد الإجابة عنها والتفصيل فيها، وإنما هي دعوة للتفكير والتأمل، نطرحها برسم ما يسمى بالمثقف في هذه المقاربة، كي يقيّم وضعه وشأنه ودوره، قبل أن تمضي عليه الأيام والسنين، فيرى نفسه واقفا محتارا عند نهاية الطريق بلا عمل، ومصطدما بالحائط المسدود بلا وظيفة، وفاقدا لدوره وقيمته وتأثيره.

إن مصير المثقف على المحك في عالم اليوم، وخصوصا في عالم متغير تلعب فيه التقنية المعلوماتية دورا فريدا لا يستهان به، ومع التقدم المطرد والمتسارع في مجال تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، والتي أدت إلى اكتساح وزعزعة وخلخلة دور وسائل الاتصال والمعرفة والوعي التقليدية، إلى حد أننا لا نعلم إلى ما سوف تؤول إليه أوضاع المجتمعات وثقافاتها في عالم تتسيده وتسوده وتسيره ثقافة الصورة وتبعاتها، حيث أدت إلى تهميش المثقف وإضعاف أدواره، كما أدت أيضا إلى تسطيح الوعي، وتهميش الثقافة، ونشر أخلاق السوق في الكثير من المجتمعات.

فما أسباب هذا الضعف والتردي الذي تعيشه هذه المجتمعات التي تغزوها ثقافة التسطيح والتسليع من جهة، ويهيمن عليها من جهة أخرى إعلام موجه لا يكف عن ضخ معلومات وأخبار وأراء وأفكار، توظف بطريقة مدروسة لخدمة أهداف محددة، وفي تشكيل وصياغة ثقافة الإنسان وتوجهاته، وتساهم في توجيه الرأي العام وتسييسه ودفعه لتبني قناعات ومسلمات معينة؟ وهل ثم مكان ودور للمثقف في ظل هذه الهجمة المعلوماتية والانفتاح الفضائي يمكن أن يؤديه بفاعليه واقتدار؟ هل يمكن إرجاع سبب هذا التردي إلى الأوضاع السائدة في هذه المجتمعات، وما تعانيه من ضغوط القهر والاستبداد في الداخل، والهيمنة والاستعلاء من الخارج؟ أم أن السبب يرجع إلى ضعف البني الثقافية لهذه المجتمعات، وعدم قدرتها على مواكبة ومجاراة المتغيرات الجارية والحادثة في الثقافة العالمية؟

إن مجتمعاتنا اليوم لم تعد تقليديه كما كان عليه الوضع في ما مضى من أزمان، فهناك متغيرات محليه وعالميه مختلفة، وهناك حراك اجتماعي متغير، وهناك قوى اجتماعيه جديدة أخذت تتشكل وتحتل مكانها في الحراك الاجتماعي والثقافي والسياسي، وهناك جيلا شبابيا جديدا ومنفتحا على الثقافة الكونية المنتشرة بوسائط الاتصال التكنولوجية الحديثة، بعيدا عن الوصاية الأبوية للأجيال الأكبر، حيث اخذ هذا الجيل يشعر بقيمته، ويؤمن بقدراته، ويعبر بكل جرأة عن آماله وطموحاته وتطلعاته المختلفة. باختصار هناك واقع مختلف، وآليات اجتماعيه مختلفة أخذت تشق طريقها وتفعل فعلها في هذه المجتمعات.

إن دور المثقف التقليدي في ظل هذه الأوضاع المتغيرة والمتحولة يعاني من ضعف وغياب شديد، ويكاد هذا الدور ينحصر بين أن يكون بوق قبيلته وشاعرها الممجد لها، والمبرر لأفعالها ومزالقها وخطاياها، أو يتحول دوره إلى متمرد عليها، يعيش منعزلا ومتقوقعا في صومعته المقفلة عليه، منقطعا عن الاتصال والتواصل مع مجتمعه وما يدور فيه ومِن حوله من أحداث وتحولات، تاركا ارض المعركة لموظفي القبيلة الطيعين وزبانيتها، يصولوا ويجولوا بلا حساب وبلا رقيب وبلا ضمير، ولا هم يحزنون.

إن المثقف الملتزم بقضايا مجتمعه وأمته يتعرض اليوم للتهميش والعزلة، نتيجة الضغوط التي يتعرض لها بسبب كبر وضخامة التحولات في سوق الثقافة والتجارة الإعلامية التجارية، التي تجعل من المثقف أداه طيعة التوظيف لصالح الاحتكارات المالية القابضة على مصير الثقافة والإعلام في عالم اليوم. فبدلا من أن يكون المثقف هو القابض على زمام وأمور الثقافة وشؤونها ويديرها ويوجهها بما ينفع ويفيد أبناء مجتمعه وأمته، أصبح هو على العكس من ذلك مستخدَما وأداه طيعة عند مالكي المؤسسات التجارية والاحتكارية التي تبحث عن الأرباح السريعة، مهما أدى ذلك إلى تسخيف الوعي، وتسطيح الثقافة وإلغائها.

إن هذا المثقف الذي ما زال يتعرض للمطاردة والعزلة والحصار والتشويه والمسبة والظلم، لا يكف هو أيضا عن ظلم نفسه، بارتكاب الحماقات والبلاهات والموبقات بحق نفسه فيظلمها، مما يزيد مِحَنه مِحن جديدة، تزيده نكوصا وارتدادا وتراجعا، فتجعله عاجزا عن أداء دوره النضالي والتنويري والنهضوي المرجو منه، فينحدر بنفسه ليصبح مثقفا مهمشا وهامشيا بلا دور، وبلا فاعلية، وفاقدا للصلاحية.

عندما نبحث ونفتش عن حماقات المثقف لن نبدل كبير عناء كي نكتشف، أو تتكشف لنا موبقاته ورزاياه، وما يعيشه من تناقض بين حياته الثقافية وسلوكه الحياتي، فهي من فرط وضوحها تكاد تتجلى فاقعة في ثنايا خطابه، وظاهر سلوكه، وصريح مواقفه، حتى تكاد تكون علامة بارزه في شخصيته، وسمه خاصة من خصاله وسجاياه العتيدة.

فهذا المثقف العتيد ما أن يعتقد انه قد تكونت لديه بعض حصيلة من علم ومعرفه، حتى تراه منتشيا بنفسه، ومعتدا بها، ومستطولا قامته، ومستعليا على من حوله من أهله وجماعته، حاسبا نفسه وقد أصبح عسيرا عليه التواصل مع بيئته الاجتماعية التي نشأ وترعرع فيها، واصما إياها بالرجعية، وواصفا هذه البيئة بتعابير غير لائقة، وبأوصاف مقززة. فهو يعتقد أن حصيلته المعرفية، وثقافته النظرية تجاوزت المجتمع ومن فيه، وانه قلب الصفحة وفتح صفحه جديدة بيضاء، غير مشوهه بعيوب بيئة مجتمعه وسلبياته، وأصبح من حقه عند ذلك، بل ومن واجبه كما يعتقد، أن يمارس القطيعة مع هذا المجتمع الرجعي والمتخلف والظلامي.

إن تمكن المثقف ونجاحه في تكوين معارفه وعلومه، وزيادة تحصيله العلمي، وأخذه لمكانه مرموقة نتيجة تفوقه النظري، لا يعني بتاتا وعلى الإطلاق انه متفوق في الجانب العملي والتطبيقي. فكم هم هؤلاء الذين تراهم يحسنون القول والخطابة والتعالم، ويجيدون الحدلقات اللفظية، التي لا أول لها ولا آخر، والتي غالبا لا طائل من ورائها، إلا أنهم حين يحتكون باجتماعهم وجماهيرهم يخفقون في التواصل، ولا يحسنون صنعا وأدبا وسلوكا، نتيجة إدمانهم العزلة والتقوقع، وعدم درايتهم وإحاطتهم بمنظومة وشبكه الأفكار والسيكلوجيا التي تحرك هذا الاجتماع.

إن هذا المثقف المسكين قد نسي انه ابن بيئته ومجتمعه، وهو في تكوينه ونسقه الثقافي، مخلوق ومتكون من عناصر هذه البيئة الأساسية والأولية، ولا يمكنه الانفصال عنها مهما قال وادعى، فعناصر تلك الثقافة وما تحتويه من عيوب وأمراض هي جزء أصيل من نسقه الثقافي. والانقلاب والتحول الذي يدعيه المثقف لنفسه، هو وهم كرسه الغرور الذي يعيشه، وأحلام اليقظة التي تصور له مزايا وفوائد هكذا قطيعه موهومة مع المجتمع.

لعل شعور المثقف بالزهو والغرور والفرادة، يدفعه لأن يصنف نفسه بالنخبوي، لذلك تراه  يتحاشى الاختلاط بأبناء مجتمعه أو التعايش معهم، كي لا يصاب كما يدعي بلوثة أمراضهم وخزاياهم، وحتى يكون بمنأى عن تفاهاتهم وضحالة وصغر عقولهم. إلا إن هذا المثقف لو تواضع بعض الشيء لأستطاع من خلال احتكاكه وتواصله مع بيئته ومجتمعه من فهم حركة المجتمع، ورصد تغير الأفكار فيه، وتكوين معرفة معمقة باجتماعه، وبالتالي من خلال الحكمة الناتجة عن هذه المعرفة، يمكنه النفاذ إلى قلب الحركة الاجتماعية وتفاعلاتها وعلاقاتها المتشعبة، ومن ثم معرفة واكتشاف الآليات التي تحكم العلاقة بين مختلف مكونات المجتمع، وما تفرضه من أنماط علاقة فيما بينها.

إن التواصل كما المعرفة، هي من الضروريات التي على المثقف امتلاكها من اجل أداء دور فاعل وفعّال ومؤثر، بدلا من الانغماس في العزلة، والبقاء بعيدا في صومعته، أو قابعا منفردا في كهوف منزوية، بل إن الوعي والثقافة والتراكم المعرفي، هي مدعاة للانغماس في قضايا المجتمع، والاهتمام بشؤونه، والحرص على إبداع الطرق والوسائل التي يمكن إتباعها في سبيل خدمه المجتمع بكل إخلاص ومسؤولية.