حول معضلة قيادة المرأة السعودية للسيارة ملاحظات و مرافعات

 

يبدو أن الاستهانة والاستخفاف بوعي الشعوب، يعتبر من أكبر الكوارث التي تجهلها الأنظمة والحكومات، كما أن سياستي الهيمنة والإستبداد أصبحت بالية  لا تدوم أو تستمر تحت ظل التجاهل  لحاجات الناس الأساسية ومطالبهم  الرئيسية والملحة، حيث تكفينا مؤشرات ساقتها إلينا الثورات العربية، و كما يقال:"العبرة لمن قرأ التاريخ فوعى وإعتبر،ونظر فأبصر،و اتعظ فأمر والسعيد من عاش زمانه ووُعظ بغيره،واتعظ بمن سبقه من أهل العدل أو أهل الظلم واختار لنفسه رضى الله أو رضى النفس" . و في ذات السياق من القضايا التي تضغط على واقع أمتنا السعودية، قضية قيادة المرأة السعودية للسيارة...
لامناص من أن قيادة المرأة السعودية للسيارة، أصبحت ضرورة شخصية واجتماعية ملحة ، فالقيادة مهمة لتلبية إحتياجات المرأة فيما يرتبط بشؤونها الحياتية، حيث الكثير من الأسر السعودية متضررة من موضوع السائق، فلا يخلو بيت إلا ولديه مشكلة، ناهيك عن الضرر الاقتصادي والاجتماعي الذي تلحقه هذه العمالة بالبلاد. وما يؤسف  حقا في الموضوع أمران:

الأمرالأول: حجم الجدل الدائر في الشارع المحلي،والذي شغل الرأي العام السعودي، كأنه قضية أمن قومي،حيث أخذ أبعادا كبيرة وزوايا مختلفة بين شد وجذب ومد وجزر في مساحة التأييد والممانعة، كما لاقى الكثير من المبالغة في التهويل والتخويف، الذي بلغ مرحلة حرجة تتمثل بالتهديد كإرهاب للمجتمع لفرض رأي الممانعة .

أما الأمر الثاني: ألسنا في القرن الحادي والعشرين، حيث المدنية التي لا تفسخ القيم والمبادئ و الأخلاق، أحرزت في كل دول العالم تقدما حضاريا عبر التفتق المعرفي و الإصلاح الثقافي، كما تتباهى  بإنجازاتها في  الصناعة والتكنولوجية ، وتقنية الاتصال والمعلومات، وبمستوى تفتخر بوصول المرأة إلى أعلى المستويات في السياسة و الاقتصاد والثقافة والاجتماع،   حتى في علم الطاقة والفضاء، ناهيك عن ربيع الثورات العربية ومشاركة المرأة والرجل في عملية التغيير والإصلاح، ومطالبة الأنظمة والحكومات بالإصلاح و التغيير أو الرحيل، مع التسابق على إقامة الديمقراطية وإقرار الحقوق والحريات وصياغة الدساتير وتعديل التشريعات، هكذا التحقت المرأة بدورها الانساني الحضاري في النهضة والتنمية والبناء، في كل ذلك المرأة بجانب الرجل، وفي مجتمعنا للأسف لازلنا نناقش أحقية المرأة في سياقة السيارة !

تجوز أو لا تجوز!!

متى وكيف ويمكن وماذا؟؟؟

ببساطة كل السجالات تسببت في الإساءة إلى حرائرنا...إنها مهزلة  جعلت أمتنا بجهلها أضحوكة بين الأمم ! فكم نحن معتوهين بالإساءة إلى نسائنا، رحم الله فضيلة الدكتور محمد عبده يماني عندما تحدث عن ( قيادة المرأة للسيارة ) أعلنها قائلا  " أننا أمعنا في تشويه صورتنا أمام العالم وكأننا أمة تحارب المرأة " فعلا نحارب نسائنا، وننال منهن وننتقص من حقوقهن رغم إيماننا وقناعتنا بأنه ليس هناك مبررا شرعيا أو قانونيا أو أخلاقيا يمنع ذلك ! وإن غالبية المجتمع بفئاته المختلفة وشرائحه المتنوعة يعي ويدرك أهمية حاجة المرأة لقيادة السيارة اليوم، وحتى من التيار المحافظ أعرف الكثير منهم في مختلف مناطق المملكة من سمح لبناته ونسائه بالتعلم والحصول على رخصة قيادة خارج المملكة، فكيف ونحن نخلق العوائق ونضع العراقيل ونحجر على المرأة ممارسة حقوقها الطبيعية في الحياة، ونضيق الخناق عليها دون مبرر مقبول أو معقول بل تحت ذريعة فتح أبواب الفتن أو بحجة أعراف وتقاليد بالية عفى عليها الدهر وشرب ، للأسف الشديد  نناقض أنفسنا بأنفسنا لأننا أمة مع الأسف دائما  تهوى اختلاق الأزمات.                               

مناقشة موضوعية للقضية:

إن قيادة المرأة للسيارة حق من حقوقها، وليس هناك ما يمنعها من ممارسة هذا الحق، والحق لا يوهب ولا يعطى وإنما يؤخذ وينتزع، وفي الوقت الذي أحيي فيه شجاعة المرأة السعودية وأثني على خطواتها الجريئة، في ذات الوقت على المجتمع السعودي أن يدرك طبيعة ما تمر به المملكة العربية السعودية من تحول في ظل هذه الظروف الحرجة، لأننا أمام مأزق للتطور الثقافي فعلا، مقابل وجود تيار فكري تقليدي محافظ يمتلك نفوذا واسعا ويسعى لفرض سيطرته وهيمنته على المجتمع، حيث يمنح نفسه الوصاية والتدخل في كل صغيرة وكبيرة لخنق المجتمع وسد كافة المتنفسات التغييرية أمامه، ويلغي أي إرادة داخلية للنهوض به ، و هذا الواقع يدفعنا جميعا كمواطنين للبحث عن مكمن الخلل وإعمال عقولنا:


هل سياقة المرأة للسيارة بحد ذاتها انحرافا اجتماعيا؟ أم هو تحولا ثقافيا؟ أم وعكة من وعكات العولمة؟

 أولا: إذا افترضنا الانحراف الاجتماعي فعلينا الأخذ بالثوابت القيمية، فالإباحة هي الأصل وهي الأساس، والتهويل والتخويف وممارسة الإرهاب الفكري والسلوكي تجاه المجتمع، يعتبر أكبر إهانة للناس وهو يضرب في صميم التربية الأسرية السعودية، ويطعن بشكل واضح في صميم المناهج الدراسية والتعليمية ، ويسيء لكافة المؤسسات التربوية ويشوه صورة الشباب السعودي، وهذا لا يرتضيه كل صاحب ضمير حي  في هذه البلاد...                              

 ثانيا، المشكلة الرئيسية تكمن في وجود فكر ثقافي متخلف ضيق الرؤية والتفكير و يرفض التغيير والتطوير تحت عباءة الدين و بإسم الإسلام والإسلام من ذلك بريء،وهذا ما يقلق المجتمع ويجعله يعيش حراكا مضطربا، لأنه يحتضن أفكارا وممارسات ليست من صحيح الإسلام في شيء، فتلقي بآثارها السلبية التي تخل بقيم المواطنة دون وعي، فتحمل المجتمع مالا يحتمل، أفكارا تتصف في غالبها  بالجمود والتعصب والتحجر في الفهم الحقيقي لمقاصد الإسلام السامية السمحة التي تعظم دور الأمة والمجتمع في العمران الحضاري، وبالتالي فإن الصالح العام للناس وللأفراد هي أحد معايير الحكم والتشريع ، فلماذا نتجاهل أهمية القيادة للمرأة وأن فيها مصلحة عامة للجميع؟ و الجميع يذكرما رصده أحد الكتاب بخصوص تطوّر الموقف من قيادة المرأة للسيارة  ، يقول فقيه ( في البداية كان هناك رأي شرعي قائل بالحرمانية، ثم سقطت هذه الفتوى بعينها وبقي باب سد الذريعة ، بعد ذلك تم التمترس بالرأي السياسي والنظامي قبل أن تثار المسألة قبل خمسة أعوام تحت قبة الشورى، واتضح أنه لا النظام الرسمي يحدد جنسا لقائد المركبة، ولا صانع القرار عنده إشكالية، وتم تعليق المسألة أخيرا في رقبة العرف الاجتماعي، وعند العرف مربط القرار الرسمي الذي يفتح أفق النقاش على مفهوم العيب بطبيعته المواربة والضبابية، حيث يعيد إحياء مفهوم الخصوصية، ويجعله شماعة لسلسلة محظورات تبقى ساكنة حد الجمود ) .

ثالثا: لا يزال السواد القابع تحت مظلة الفقهاء، الذين أصدروا الفتاوى في بداية الأمر بالتحريم، هو ما يحجبهم عن فتح عقولهم والتزود  من التراث الثقافي الإسلامي الأصيل الغني بأطروحاته الثرية في السماحة والتيسير وفي تجديد الحركة الاجتماعية الإسلامية التي تحفز على العلم والعمل وإعمال العقل والسعي لإعمار الأرض، والارتقاء بالحاجات المتعددة للإنسان، فيصيغون فتاواهم في ظلام الليل دون إشراق النهار ووفق مقاييس لم يراع صائغها عامل الزمن والثقافة والأبعاد السياسية والاقتصادية  ليفرضوها على الواقع المعاصر. ويفرضوا تأويلاتها علي مجريات الحياة، الأمر يستدعي فتح بوابة الاجتهاد الفقهي فيما يرتبط بالمصلحة العامة للناس،فأين نحن من وصايا رسول الله وقوله " يسّروا ولا تعسّروا "، وكم هي رائعة الشجاعة التي أضافت لمشايخ الأزهر إجلالا وإكبارا آخريْن، عندما أعلنوا صراحة تجاوز الآراء والأحكام السابقة بواجبهم في الاختلاف ومراجعة أفكارهم والتعامل بما يتناسب مع تطورات العصر وتعقيدات المجتمع ومتطلباته تجاه مواجهة الأزمات الفكرية والثقافية، كمحمد شتلوت، ومصطفى المراغي وعلماء معاصرون لازالوا يقدموا للعالم إضاءات مشرقة وفتاوى مسعفة تتجاوز ما دعا إليه السلف ، ويحيطوا بكل الاجتهادات ، بالإضافة لحديث رسول الله في قوله " أنتم أعلم بأمور دنياكم " مع مراعاتهم لكل الأبعاد والمعطيات والمقاصد الشرعية عبر المصالح والمفاسد .

وفي هذا الصدد أيضا يقول ابن قيم الجوزية في كتابه «أعلام الموقعين» كما ورد في – الحوار المتمدن - : (إن العالم قد يزل ولابد، إذ ليس بمعصوم، فلا يجوز قبول كل ما يقوله.. وهذا أصل بلاء المقلدين وفتنتهم، فإنهم يقلدون العالم فيما زلّ فيه وفيما لم يزل فيه، ولي لهم تمييز بين ذلك، فيأخذون الدين بالخطأ ولابد، فيحلون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله، ويشرعون ما لم يشرع ولما كان التغير والتبدل في أحوال العمران من السنن الكونية ، كما أكد ابن خلدون، وظروف المجتمع والبشر في تنوع وتدافع وحركة مستمرة، يوصي ابن قيم الجوزية (فمهما تجدد العرف فاتبع، ولا تجمد على المنقول في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل يستفتيك من غير إقليمك فلا نجره على عرف بلدك، وسله عن عرف بلده فأجره عليه، دون عرف بلدك والمذكور في كتبك). ويقول في موضع آخر ( ومن أفتي الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم فقد ضل وأضل. وكانت جنايته علي الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم علي اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب، وهذا الطبيب الجاهل، وهذا المفتي الجاهل، أضر ما يكون علي أديان الناس وأبدانهم».

تجد آراء بعض الأئمة المجتهدين الذين لن تنغلق عقولهم وقلوبهم عن السعي وراء البحث العميق تيسيرا وتجديدا لحياة المسلمين في إطار الشريعة السمحاء، وإذ حيثما تكون المصلحة فثم شرع الله.  وثمة فريق آخر يري أن الحرص علي الورع والتقوي يستلزم التشدد وكثرة النواهي والغلو في قاعدة سد الذرائع خوف الفتنة والأخذ بالأحوط خشية الزلل والمغالات في هذه التوجهات، مع تتابع المستجدات، وتصاريف الزمان ومتغيراته اللامتناهية- كما يصفها الإمام الشهرستاني صاحب كتاب الملل والنحل (لها مخاطرها في تضييق حياة الإنسان، قد تكبل حركته في عمارته للأرض التي استخلفه الله فيها). *

رابعا : التخلف الثقافي يتنافى مع مسايرة الواقع الإقليمي

إن حركة التقدم السياسية والثقافية والحضارية في العالم اليوم، متفاعلة ومتسارعة ومتشابكة وهي مليئة بالإنجازات والطموحات والتطلعات والإرادات المتباينة و تبحث أن يكون لها موقع متميز في هذا العالم على مختلف الصعد وكافة المستويات، الأمر الذي يدعونا إلى ضرورة إحداث تحولات تاريخية وقفزات نوعية في واقعنا، تجعلنا نستفيد منها ونحدد فيها موقعنا لنلحق بركب المتقدمين . وإن إستمرار مثل هذه التوترات لا تصب في مصلحة الوطن وكأننا أمة تحارب نفسها بنفسها، وتعوق مسيرة نهضتها ، وتحول دون الانطلاق في رحاب البناء والتنمية .

خامسا: قرار سياقة المرأة السعودية للسيارة، بحاجة إلى قرار سياسي جريء من صاحب القرار، وصاحب القرار من المؤكد أنه يدرك تماما حجم هذه اللحظة التاريخية الصعبة التي تمر بها  المملكة، خاتمة الملاحظات أتساءل و كل الواعين من وطني الغالي : إلى متى يبقى الاستخفاف بالشعوب والإستهانة بكرامة الإنسان (رجل و امرأة)، والى متى ستبقى جبهة الصراع تطال نسائنا، وإلى متى تعيش المرأة السعودية بحقوق منتقصة و أخرى معوقة ؟ بينما المطلوب أن نكون حريصين على حفظ المرأة بآداب الإسلام، عبر إخراجها من سجن الأعراف الخاطئة وتحريرها من القيود التي فرضت عليها ونركز في معاملتها كمواطنة نفخر بها بين الأمم .

لكنني أقول: اذا كان الخوف  والحذر هو الأب الشرعي لأي متغير يدفعنا للأمام، ويزحف بنا نحو مواكبة المتغيرات، فإن انعدام العدالة هي الأخرى الأم الشرعية لما نراه من ظواهر مانعة للإصلاح وفي مقدمتها منح فرصة للانتهازيين والمتملقين لتلتف حول المسؤول وهنا يكمن الفساد الذي ينتج لنا عناقيد من فطريات النفاق والتدليس والدجل و التخلف عن التنمية المستدامة. ومن يريدون إطباق السيطرة والنفوذ وإستمرار العنف السياسي، لا مكان لهم اليوم فهم  جرثومة طفيلية تعيش على اشتعال الفتن و الحرائق الاجتماعية و السياسية و الطائفية وأعداء لكل مشروع يتعلق بالنهوض التنموي، الذي لا يخبو اذا ما تدارك الواعين والمخلصين في هذا الوطن أهمية النهوض الفكري العقلاني والحكم الرشيد المرافق لصحوة الضمير البشري الإنساني والاحتكام إلى قيم الحق والعدل والمواطنة، بتحقيق كل الضوابط الإنسانية وسيادة القرارات الشرعية العالمية والضوابط و الإلزامات الأخلاقية دون سياسة التمييز والإقصاء والتهميش ، كي تسود الرحمة ويتحقق الأمن وتتعزز الثقة بين الحاكم والمحكوم ..

وحسبنا الله و نعم الوكيل و أملنا كبير في أصحاب القرار، لاستدراك التأخر في تحرير المرأة من التمويه العرفي المختلق، الذي لا يورثنا إلا بئس المصير بين الأمم المتألقة في مشوار التكامل الحقوقي من أجل تنمية مستدامة

كاتبة وباحثة سعودية «صفوى».