الثورة التونسية .. وإرادة الجماهير

السيد ماجد السادة

بسم الله قاصم الجبارين مبير الظالمين

والحمد لله الذي يرفع المستضعفين ويضع المستكبرين ، ويهلك ملوكا ويستخلف آخرين ، والصلاة والسلام علي سيد المرسلين محمد وعلى أهل بيته الأباة المهديين الطيبين الطاهرين ، واللعن الدائم على أعدائهم من الطغاة والحاقدين إلى قيام يوم الدين .

(عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه ) مقولة شهيرة عن أبي ذر الغفاري رضوان الله تعالى عليه وقيل انه يرويها عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ، لذا في ثورة تونس الكرامة اسقطوا النظام لأنهم علموا أنهم لن يأكلوا خبزا قبل أن يستردوا كرامتهم ممن سلبها ، فانتفض الشعب بأجمعه في أول ثورة جماهيرية تسقط نظاما عربيا .

تلك هي إرهاصات لولادة جيل عربي جديد في عالم يتوق للحرية والانعتاق قرر أن ينعتق من دكتاتوريات أنظمته المستبدة  بنهضة جماهيرية سبق فيها نخبته من الأحزاب والتنظيمات الشائخة التي لم تعد تواكب تطلعات مجتمعاتها  وتتلمس معاناته .

هذه الثوة الشعبية هي زلزال سياسي عربي يوشك أن تكون له ارتدادات على مستوى الشعوب والأقطار العربية ، خاصة وانها دغدغت مشاعر تلك الشعوب المقهورة التي لا زالت تعاني من أنظمتها الدكتاتورية ، وترزح تحت نير استبدادها .

لقد أسقطت هذه الثورة حاكمية قانون "الغلبة بالسيف" الذي صار عرف أنظمة الاستبداد العربي منذ الحكم الأموي وحتى عصرنا الحاضر ، حيث شرعية السلطان يكتسبها من مجرد تغلبه على الحكم بالسيف ، بحسب تنظيرات علماء البلاط في التاريخ .

إن أنظمة الاستبداد العربي جاءت تحت شرعية نظام الغاب هذا ، فكان تصويت الشعب التونسي عليها بثورة اسقط فيها هذه المقولة السائدة ، ولقد اعتادت أنظمة الاستبداد في عالمنا العربي قمع حريات شعوبها وخنق أصواتها إلى حد لا تتمكن من التعبير عن رأيها إلا في ثورة غضب وانفجار شعبي وانتفاضة جماهيرية ، وهذا عينه ما حدث في تونس حين أحكم نظام بوليسي قبضته على رقاب الناس ، فاعتقل الكفاءات وامتلأت سجونه من الدكاترة والإعلاميين والكتاب والمفكرين والناشطين وغيرهم ، ناهيك عن صنوف التعذيب التي يتفنن بها في التنكيل بهؤلاء الأحرار .

النظام التونسي البائد يحكي واقع الأنظمة الاستبدادية في عالمنا العربي ، حيث التركة المثقلة بانتهاكات حقوق الإنسان ، وقمع الحريات ، وإقصاء الشعب عن المشاركة السياسية ، فضلا عن الفساد المالي والإداري ، حيث فيه تستأثر عائلة الرئيس التونسي ومقربيها بثروات الشعب واحتكار المسؤوليات والمناصب ، وحيث اختلال نظام العدل والمساوة في توزيع الثروة على فئات الشعب ومناطقة ومدنه ، حتى انقدحت شرارة الثورة من حي فقير في مدينة "سيدي بوزيد" المهملة تلخص في واقعها حالة الاستئثار واللامساواة .

ثلاثة وعشرون عاما حكم فيها ذو الخمسة والسبعين خريفا " زين العابدين بن علي" دولة تونس ، فكانت سنينا مليئة بالوعود الزائفة والخطط التنموية المتخبطة ، حتى انتج واقعا تنمويا مشوها ، وافرز نسبة بطالة عالية إلى حد الاختناق ، حيث نصف مليون عاطل عن العمل 22% منهم خريجي جامعات ، كما اعلن عن مشاريع رصد لها أرقاما فلكية ليسهل لأسرته وطابور المتمصلحين الفساد والتلاعب ونهب ثروة الشعب، فاستسمنت منها كروش عائلة النظام ومنظومة الرأسماليين المقربة ، لتتخم أرصدة حساباتها السويسرية ، ويجوع شعبها تحت وطئ البطالة والفقر إلى حد اليأس والانتحار .

عرف النظام التونسي البائد بالفساد المالي والاستئثار بالثروة واحتكار المناصب لأسرته ومقربيه ، مستبعدا الطاقات المخلصة من كفاءات الوطن ، وقد كشف كتاب "حاكمة قصر قرطاجة..يد مبسوطة على تونس" للصحفيين الفرنسيين "نيكولا" و "كاترين" كشف واقع الاستئثار هذا ، وكيف كانت عائلة بن علي وزوجته يعتدون على أملاك آخرين سواء من التجار الناجحين أو غيرهم ، ولعله كان بنظام "المشاركة بالنصف" الشهير .

إن واقع اليأس الذي تعيشه الشعوب من أنظمتها هو الذي فجر ثورة وغضب الشعب التونسي ، في سلسلة احتجاجات وتظاهرات استمرت شهرا سقط فيها العديد من القتلى والجرحى كضريبة طبيعية لأي شعب يحاول استرداد حقوقه والانعتاق من ربقة الاستبداد ، توجتها بمظاهرة احتشد فيها ستون الفا أمام مبنى وزارة القهر كما يصفها التونسيون ويعنون بها وزارة الداخلية ، متحدين بذلك قهرها ، كاسرين رهبتها ، فانهار النظام لا يلوي على شيء .

إن سقوط هذا النظام بما حمل من رمزية للنظام الاستبدادي في عالمنا العربي هو جرس إنذار لتلك الأنظمة المتسلطة على رقاب شعبها بالنار والحديد ، والتي لا زالت تقصي شعبها عن المشاركة السياسية الحقيقية ، فتظاهرة الستين الفا والتي رفعت شعار ( خبز وماء وبن علي لا ) والتي استطاع فيها الشعب أن يقرر إرادته ، جعلت "بن علي" يفر هاربا خاسئا دون أن يجد دولة تقبل باستضافته ، فحتى فرنسا حليفه الأول ، رفضت استقباله ، حتى طوى الليل يجول بطائرته يبحث عن سلة لنفايات الشعوب يلجأ إليها .

إذا الشعب يوما أراد الحياة          فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي              ولابد للقيد أن ينكسر
ومن لم يعانقه شوق الحياة             تبخر في جوها واندثر