الهويات والإحتكام الثقافي (2-2)

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم إلى قيام يوم الدين.


     إن نظرة الآخر وتفسيراته لمسلكياتنا وممارساتنا الناشئة من خصوصيتنا الثقافية ينبغي أن لا  نحكّمها أو يكون لها مدخلية في تقييمنا لهذه الممارسات ، فضلا عن أن نجعل لها تأثير في صياغة علاقتنا وموقفنا من هذه الممارسات ، فالقرآن الكريم قد نهانا أن نتخذ من هذا الآخر المختلف معنا  مرجعيةً ثقافية  في تقيم متبنياتنا الثقافية ، خاصة اذا كان هذا المختلف على النقيض ثقافيا مع منظومة هويتنا القيمية  لذا قال ﴿ يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَٱلْكُفَّارَ أَوْلِيَآءَ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (1) .
الاحتكام الثقافي في الشعائر
     تتجلى هذه الإشكالية المنهجية من التحكيم الثقافي وبأجلي صورها عند وضع الشعائر - التي تمثل عناوين ومعالم هوية مجتمعنا الثقافية - تحت مشرحة النقد ، إذ اختلاف المرجعيات الثقافية لتلك الهويات قد تجعلها تنظر إلى ممارساتنا الشعائرية بنظرة مغايرة ومباينة إلى حد النقيض ، فالصلاة التي نعتبرها شعيرة مركزية من عمق الهوية الإسلامية ، قد تكون بلحاظ ثقافة وهوية أخرى مثار سخرية واستهزاء، بحيث تجعل الآخر ينظر إلينا بعين الاستهانة والاحتقار ، مما يوهن من موقعيتنا الاجتماعية لدى الآخر ، وتظهرنا بصورة تستدعي عدم احترام الآخر لنا ، وقد قرر القرآن الكريم هذه الحقيقة في قوله ﴿ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاَةِ ٱتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ (2) ، معللة سلوكهم الاستهزائي تجاه ممارستنا لهذه الشعيرة  بعدم إحاطتهم ووعيهم لفلسفة هذه الشعيرة وما تعبر عنه في ثقافتنا ، واستنادهم في نظرتهم هذه إلى مرتكزاتهم الثقافية المغايرة .
     هذه الإشكالية المنهجية في التحكيم الثقافي ، لا تقتصر على علاقتنا مع الآخر الملّي بل حتى مع  الآخر المذهبي ، فيما يتعلق بخصوصياتنا الثقافية وممارستنا لشعائرنا الخاصة ، فعندما نحكّم في ممارستنا لشعائرنا ثقافة الآخر المذهبي ونظرته ، فقد يعيبها علينا ، أو تكون مثار سخريته علينا ، مما تقلل وتوهن من قيمتنا عنده .
     لقد كان الآخرون يعيرون  شيعة أهل البيت عليهم السلام  ويرمونهم بالتخريف عندما يرونهم يقطعون الفيافي ميممين رحلهم صوب صحراء قاحلة قاصدين زيارة قبر أو قبور قد سفت عليها الرياح ، كما غيرهم من الموتى المقتولين في الحروب المدفونين في مواقع قتالهم ، والتي  هجرها أهلها ونسوها ، فكانون يعيبون على شيعة أهل البيت عليهم السلام ممارستهم لشعيرة زيارة سيد الشهداء الحسين بن علي عليه السلام وأصحابه رضوان الله عليهم ، في وقت لا يرون فيما حولهم من الحواضر والمجتمعات من يتعنى ليقطع كل هذه المسافات المعدودة بالأيام والشهور ، لأجل زيارة قتلاهم في الحروب ، خاصة اذا كانت مدافنهم جد نائية عن الحواضر والمدن .
     بينما تعد زيارة الإمام الحسين عليه السلام في ثقافة أهل البيت عليهم السلام ، من الشعائر والعناوين المائزة للهوية الشيعية عن غيرها ، كما أشار إلى ذلك إمامنا العسكري عليه السلام حين قال ( علامات المؤمن خمس : صلاة احدى وخمسين ، وزيارة الأربعين والتختم في اليمين ، وتعفير الجبين ، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ) (3) ، سوى أن هذه الزيارة تعد من الممارسات الشعائرية التي تعيبها هويات أخرى على الشيعة وتعتبرها احدى مثالبهم التي تظهر سفه عقيدتهم ، وقد أشار الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله إلى ذلك في حديثه لأمير المؤمنين عليه السلام بقوله ( ... ولكن حثالة من الناس يعيرون زوار قبوركم بزيارتكم كما تعير الزانية بزناها ، أولئك شرار أمتي ، لا أنالهم الله شفاعتي ولا يردون حوضي ) (4) ، ومع ذلك تجد الأئمة عليهم السلام ، لا يأبهون بهذه الاتهامات والنظرات ، بل لا يضعون لنظرة هذا الآخر تجاه ممارستهم لشعائرهم أي اعتبار ، لان أخذها في الاعتبار يعني تحكيم ثقافة الآخر وهويته في تقييم ممارساتنا الشعائرية المنتمية إلى خصوصيتنا وهويتنا الثقافية ، فهو منهج مرفوض في مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، وهذا ما يظهره ويؤكده دعاء الإمام  الصادق عليه السلام  لزوار الإمام الحسين عليه السلام حين يقول (اللّهُمَّ إِنَّ أَعْداءنا عابُوا عَلَيْهِمْ خُرُوجَهُمْ فَلَمْ يَنْهِهِمْ ذلِكَ عَنِ النُّهُوضِ وَالشُّخُوصِ إِلَيْنا خِلافاً عَلَيْهِمْ فَارْحَمْ تِلْكَ الوُجُوهِ الَّتِي غَيَّرَتْها الشَّمْسُ، وَارْحَمْ تِلْكَ الخُدُودَ الَّتِي تُقَلَّبُ عَلى قَبْرِ أَبِي عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلامُ ) (5) ، ففي الوقت الذي يعيب الآخرون على شيعتهم هذه الزيارة نجد إمامنا يدعو لهؤلاء الزوار والممارسين لهذه الشعيرة المعابة من قبل الآخر، ويثنى على ممارستهم هذه الشعيرة ، مؤكدا بذلك رفضه لمنهجية تحكيم ثقافة الآخر في تقييم ممارساتنا الشعائرية ، فضلا عن أن تكون معيارا للرفض والقبول ، لأن ( اختلاف الشعائر أو الطقوس حسب الملل والبلدان المختلفة في شعيرة منصوبة لتدل على معنى سام ، لكن الآخرين قد ينطبع بأذهانهم معنى آخر ، فهذا لا يستلزم ممانعة الشعائر ولا يعرقل اتخاذها وتعظيمها ) (6)
     إن المطلوب في الشعائر هو تعزيز الهوية الثقافية للمجتمع ، و مقولة توهين الدين وإعمالها في الشعائر هي شكل من الاحتكام لثقافة الآخر ، الأمر الذي يجعلها مقولة ساقطة وباطلة منهجيا ،( فلو استجيب لكل ما يروق للآخرين مما يكون مقبول عندهم ، لتبدلت هويتنا إلى هويتهم ، وكان ذلك نوعا من الانهزام والانزلاق تحت سيطرتهم ولأدى إلى ذوبان شخصيتنا في بوتقة الفكر الدخيل والأجنبي ) (7) خاصة وان الشعائر هي عنوان هوية ، وتحكيم ثقافة الآخر في تقييمها هو نوع آخر من الذوبان في الهويات الثقافية للمجتمعات الأخرى  كما في توصيف المحقق آية الله السند لهذه الحالة في بحثه للشعائر ( فلو اشترطنا في الشعيرة قبولهم لمعناها فهذا يعني فقد الشعيرة وظيفتها ، أو ضياع الدور المرجو منها ، أو الغرض المأمول منها ، وبعبارة أخرى : إن التساهل والتهاون بذلك يعتبر فقدانا لهويتنا وأصالتنا ) (8) .

(1) 57 / المائدة
(2) 58 / المائدة
(3)بحار الانوار – للمجلسي – ج95
(4)وسائل الشيعة – للحر العاملي – ج 14
(5)بحار الانوار – للمجلسي – ج98
(6)الشعائر الحسينية بين الاصالة والتجديد – لآية الله الشيخ محمد سند
(7)المصدر السابق
(8)المصدر السابق