الفعل الثقافي للشعائر (1-3)

السيد ماجد السادة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير الأنام محمد وآله الطاهرين ، واللعن الدائم على اعدائهم الى قيام يوم الدين . السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين .

قال الله تعالى في كتابه الكريم (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [1] 

لا تجد مجتمعا بلا هوية ، نعم قد تجد مجتمعا غابت وانزاحت عنه هويته ولكن لصالح حلول هوية اخرى مكانها ، فكل المجتمعات الانسانية لا بد ان تكون لها هوية ثقافية تتميز بها عن غيرها من المجتمعات ، قد ساهم في نسجها وتشكيلها سيرة تراكمية من تجارب هذا المجتمع او ذاك انتجت في محصلتها هوية ذات سمات ومعالم خاصة ، ومن المعالم المهمة في تشكيل الهوية والتي تعد عنوانا مائزا لهوية أي مجتمع هي شعائره .


الشعائر تعد عنوانا هاديا لهوية أي مجتمع الثقافية الامر الذي دفع علماء الانثروبولوجيا  في دراساتهم لحياة الانسان والمجتمعات الانسانية  الاستعانة بفهم الطقوس والشعائر لمعرفة هوية هذا المجتمع الثقافية او ذاك ، وفي معاجم لغتنا تستعمل كلمة الشعائر ويَعْنون بها العلامات ، فهي جمع لكلمة شعيرة مؤنث شعار وتعني العلامة [2]  .


فالشعائر في حقيقتها هي معالم وعلائم وعناوين مائزة وفارقة تميز مجتمع عن آخر في هويته ، وتمتاز الشعائر عن غيرها من الموروثات الثقافية انها ممارسة يؤتى بها على نحو العبادة ، أي يتعبد بها ويتقرب بممارستها الى الله عز وجل ، فهي ممارسات مقدسة وذات بعد ديني .
     وفي الآية الكريمة حين يستعمل اسلوب الاضافة بقوله تعالى ( شعائر الله ) فيه اشارة واضحة الى قدسية المضاف أي الشعائر اذ قدسية المضاف اليه تسري الى المضاف فحين نقول بيت الله فهذا يعني ان هذا المكان مقدس وحين نقول ناقة الله او حدود الله فكذلك ، فإضافة الشعائر الى الله عز وجل يفيد انها مقدسة وقد اسبغ الله عليها قدسية من قُدُسه .

     لقد أولى الإسلام اهتماما فائقا بالشعائر بدءاً من سنها وتشريعها وانتهاء بتعظيمها والحث على إقامتها ، فإقامة الشعائر من الواجبات الاجتماعية (الكفائية)  ، وقد أوجب الإسلام على الحاكم الشرعي والمتولي لشؤون الأمة الحرص على رعاية إقامة المجتمع لها ، وإذا لم يتمكن المجتمع من إقامة الشعائر وجب على الحاكم الشرعي أن يبذل من بيت المال لإقامتها ، فإذا لم يتمكن أحد من الحج أو من زيارة الإمام الحسين عليه السلام مثلا وجب على الحاكم الشرعي الإنفاق من بيت المال لتسيير وتفويج الحجيج والزوار ، ولكون الشعائر ذات قيمة وأهمية في الحفاظ على دين المسلم وهويته او جب الاسلام عليه الهجرة من أي مكان لا يقدر فيه على اقامة شعائره كالصلاة والصيام مثلا  ليتمكن من إقامتها ، بل في بعض فروض المسألة يجب على الحاكم الشرعي محاربة أي مجتمع إسلامي يمتنع عن إقامة الشعائر ، ومن بدائع التشريع الاسلامي ذلك التشريع الذي يحثنا على إقامة شعيرة الأذان في أذن المولود لحظة استهلاله لهذه الحياة ، وكأنه يرمي ويهدف الى الحرص على تشكيل هوية الطفل من اول نفس يستنشقه في هذه الدنيا ليبقى مغروسا في اعماق وجدانه وعقله الباطن الى ما شاء الله ويصبح عنوانا لروحه ومسيرة حياته المقبلة  ففي الحديث عن الامام الصادق عليه السلام ( المولود إذا ولد يؤذن في أذنه اليمنى ويقام في اليسرى ) [3]  ، وقد صدح الشاعر مادحا بقوله :

لا يستهل وليدكم إلا بما                فيه شعار الدين ساعة يولد .

إن كل ما أشرنا إليه ليشي بأهمية بالغة يوليها الإسلام للشعائر ، لذا لم ينفك يأمرنا بالاهتمام بها  وإحيائها بل وتعظيمها ، وهذا ما يثير استفهاما عريضا .. لماذا كل هذا الاهتمام من لدن شريعة السماء بتشريع وسن الشعائر و حرصها بالدعوة لإقامتها و تعظيمها ؟ خاصة إذا ما علمنا أن الإسلام جاء كنظام حياة للبشرية يهدف للارتقاء بالمجتمع الإنساني إلى مراتب الرقي والتقدم والرفاه ، وأن كل ما أتى به من تشريعات إنما يصب في هذا الهدف السامي ، وتأتي في مقدمة تلك التشريعات الهادفة للبناء والرقي الاجتماعي منظومة الشعائر .

ووفق معطيات العلوم الحديثة اكد علماء الاجتماع بأن الشعائر تنشأ وتأتي لتسد مجموعة من الحاجات الاجتماعية ، وقد ذهب "دوركايم" Durkheim (1858 – 1917) وهو أحد رواد المدرسة الوظيفية في علم الاجتماع ، في كتابه "الاشكال الاولية للحياة الدينية" ذهب الى ان للشعائر مجموعة وظائف تحقق في محصلتها ونتيجتها تماسكا اجتماعيا .. فماهي الوظائف الاجتماعية التي تقوم بها الشعائر باعتبارها إحدى منظومات التشريع الاسلامي للنظام الاجتماعي ؟

     ستقتصر اجابتنا على هذا السؤال ذو الأبعاد الواسعة على جزء من الشق الثقافي منه ، حيث سنتناول في الاجابة بعدين من وظائف الشعائر على المستوى الثقافي ، احدهما يرصد ويبين دور الشعائر كمكون ثقافي في تحصين المجتمع والحفاظ على هويته من الذوبان في خضم التماوجات الثقافية التي تمر بها مجتمعاتنا جراء الانفتاح المهول والعولمة الثقافية وما انتجه من صراع الهويات ، والبعد الثاني في الاجابة سيتناول الشعائر باعتبارها تمثل سلاح مقاومة للشعوب المقهورة تحافظ من خلالها على وجودها واثبات ذاتها وتؤكد بها هويتها امام محاولات التغييب وطمس الهوية .

[1]  32 / الحج
(2) راجع لسان العرب – لابن منظور
[3]  وسائل الشيعة – للحر العاملي – ج 5