العاملون في الشأن العام وداء النرجسية

شبكة أم الحمام

الشأن العام موضوع مشاع وليس حكراً على فرد أو فئة أو طائفة، بل هو مجال مفتوح أمام كل الآدميين على حد سواء. إنه وحده المجال الذي لا يتطلب إذناً من أحد، ولا شهادة من جهة، ولا يخضع من يروم الإنخراط فيه لامتحانات جدارة وأهلية من أي نوع..وبقدر ما هو مجال مفتوح أمام من يتطلع لتحقيق هدف ما خاص أو عام، فإنه يظل مفتوحاً أيضاً أمام تقييم المستهدفين، أي الناس، المعنيين بصورة مباشرة بتصويب الاعمال، وتقويمها، وأيضاً تقديرها (وقد يشكو العاملون أحياناً من قلة تقدير الناس لجهودهم، وهذا يجري حتى على الأنبياء والأصفياء).

ما نود التأسيس عليه من المقدّمة المكثّفة، أن الإنخراط في الشأن العام لا يهب أحداً عصمة أمام الخطأ ولا حصانة أمام النقد، فمن يرد تقمّص دور ما في المجال العام يلزم عليه الاستعداد لتقبّل ألوانٍ شتى من المواقف وردود الفعل، فليست نظرات الناس سواء إزاء ما يقوم به العاملون، فقد يكون عمل ما حسناً عند هذه الجهة وقبيحاً عند جهة أخرى، ولكلٍ زاوية نظر تختلف عن الأخرى.

نعم، في المستوى العام للعمل هناك مشتركات، يكون على أساسها المحك، يقرّها العقل بوصفها مصاديق للحسن وأخرى للقبح العقليين، وربما تميّزت المدرسة الإمامية عن غيرها من المدارس الإسلامية الأخرى أنها ترجّح العقل كمصدر الحجج وإليه تنتهي وهو المرجع الوحيد في اصول الدين وفي بعض الفروع التي لا يمكن للشارع أن يصدر حكماً فيها. ولذلك، فإن التحاكم هنا يصبح عقلياً مسترشداً بتعاليم الشرع.

ينشق أخدود التفارق بين العاملين والناس حين تختّل النظرات إزاء ماهو مصلحة وماهو مفسدة، فقد يرى الناس أو قسم وازن منهم بأن هذا العمل يؤول الى مفسدة فيما يراه العاملون أو قسم وازن منهم بأن فيه صلاحاً، فتختّل على أساس النظرات المتباينة المواقف واستطراداً العلاقات، وهنا ينشأ الخلاف الذي قد يضع العاملين جميعاً أمام اختبار القيم التي ناضلوا من أجلها.

ربيع العاملين مرتبط برضا الناس بمن فيهم نظرائهم في ساحة العمل، حتى وإن كان الرضا مؤسساً على معطيات خاطئة أو وإن كانت أدوار قسم من العاملين لا تفضي الى نتائج حميدة، ولكن هي الطبيعة البشرية التي تجعل من قبول الناس ورضاهم غاية بحد ذاتها..ولكن هل الحال دائماً على هذا النحو؟ بطبيعة الحال كلا، فقد يأتي زمان تتكشف عيوب وقصور مقاربة ما في العمل، فتبدأ عملية مراجعة وتقويم جزئي أو شامل لهذه المقاربة، وتتبلور مقاربة أخرى جديدة تكتسب زخماً ومصداقية لدى الناس في مقابل المقاربة السابقة.

هكذا هي الحالة الميكانيكية للعمل في الشأن العام وتبدّل أحوال العمل والعاملين بصورة إجمالية، ولكن المشكلة تكمن في ما ينجم عن هذه التحوّلات من ردود فعل. فهل يقبل العاملون مثلاً بهذه العملية الميكانيكية أم أن ثمة مواقف مضادة تحاول كسر السياق الطبيعي لسير سنن التغيير؟ يظهر ذلك بوضوح في التعاطي مع المواقف النقدية من قبل الناس، أو العاملين في الساحة، والتي تأخذ أشكالاً مثيرة للغرابة، وذات طبيعة استفزازية، بحيث تخرج الشأن العام من كونه عاماً وتحويله إلى شأن خاص، بل وشخصي.

الجنوح في تحليل إنتقادات الآخرين ينبىء عن اختلالات، ولعل أخطرها هو ذلك الإحساس المرهف الذي يكاد من فرط استبداده بصاحبه رفض حتى مجرد التنبيه وفي جنح الظلام وبعيداً عن أعين المخلوقات لخطأ وقع فيه، فيحسب ذلك تعريضاً به، وتجاوزاً على ذاته المقدّسة، ويتم تحضير كل أدوات التحليل النفسي، فيرمى كل من يبوح برأي مخالف أو نقدي بحزمة أمراض مثل: الحسد، والحقد، والغيرة، والعقد النفسية، وقد تترافق مع عملية تخوين بأن من ينتقد لديه أجندة خفيّة، وأنه مدفوع من جهة خارجية، أو أن هناك مؤامرة حيكت من قبل أطراف مغرضة..فتصبح الذات وليس الموضوع هي القضية الخلافية!

إن تزكية الذات من أخطر ما يواجه العامل في الشأن العام، وهو مجال ينمّي أدواء لا حصر لها، مثل الغرور، والاعتداد بالرأي، وحب المدح، والمفاخرة، وتصنيم الذات، تعظيم عمله وتحقير عمل الآخر. ومن تناقضات العاملين في الشأن العام نضالهم من أجل حرية التعبير والتنوّع الذي ربما تعرّضوا بفعل الدفاع عنهما للسجن والتعذيب والقهر، ولكن حين يراد من العاملين أن يعتنقان حرية التعبير وحق التنوّع كعقيدة عملية وسلوك إزاء نظرائهم من العاملين في الشأن العام، يصبح الموقف شيئاً آخر..فيصيبهم داء الاستبداد، الذي هو سلطوي بامتياز.

هناك دون ريب انتقادات غير مسؤولة، ولا يجب أن يحول ذلك دون القبول بالنقد، ولكن في الوقت نفسه لابد من العمل على درء كل ما من شأنه تسميم بيئة العمل في الشأن العام، فمهما بلغت أخطاء العاملين لا تقارن بموبقة التنصّل من المسؤولية، والانعزالية غير المبررة، وخصوصاً من أولئك الذين عقدوا مجالس التهكم وتوزيع الأحكام، فيما يقاسي العاملون العناء والعنت والضيق والقهر..


(وما أبريء نفسي إن النفس لأمّارة بالسوء إلا ما رحم ربي، إن ربي).